حياة الفرح الروحي
الفرح الروحي ليس مجرد شعور عابر بالبهجة، بل هو حالة وجودية عميقة تعكس حضور الله في حياة الإنسان. ويُعتبر الفرح عطية إلهية نابعة من الروح القدس { وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ} (غل ٥: ٢٢). الفرح الروحي يرتبط بالحياة الجديدة في المسيح ومن علاقة المؤمن وعشرته مع الله التي تمنحه ثقة وثبات حتي في مواجهة الظروف الصعبة والمشقات. بينما ينظر علم النفس إلى الفرح كجزء من الصحة النفسية والرفاهية الإنسانية والعلاقات الأجتماعية السوية وسعي الإنسان الإيجابي ليحيا حياة الرضا والشكر والقناعة ومواجهة الحياة بايجابية.
أولاً: الفرح الروحي في الكتاب المقدس
+ المصدر الإلهي للفرح .. الله هو مصدر فرحنا وخلاصنا فشخصه المبارك ومحبته ووعوده واحساناته المتجددة واتكالنا عليه يهبنا الفرح { لأَنَّهُ بِهِ تَفْرَحُ قُلُوبُنَا، لأَنَّنَا عَلَى اسْمِهِ الْقُدُّوسِ اتَّكَلْنَا.} (مز ٣٣: ٢١).{ أَمَّا نَفْسِي فَتَفْرَحُ بِالرَّبِّ وَتَبْتَهِجُ بِخَلاَصِهِ.} (مز ٣٥: ٩). لقد فرح التلاميذ بنجاحهم في ارساليتهم وان السيد المسيح اعطاهم السلطان لأخراج الشياطين فقال لهم الرب عندما رجعوا اليه أن يفرحوا بالحري بأن اسمائهم كتبت في السماء { هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ، وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ. وَلكِنْ لاَ تَفْرَحُوا بِهذَا: أَنَّ الأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ».} (لو ١٠: ١٩، ٢٠)
+ يقول الرسول بولس: { افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضًا افرحوا} (في 4: 4). هنا يرتبط الفرح بالرب، لا بالظروف وجود الله معنا مصدر للفرح الروحى، الذي ينزع عنا القلق والخوف ويمنحنا سلام ويجعل كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله حتى وسط المرض والتجارب نجد سلام وتعزية من الله
{ مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الرَّأْفَةِ وَإِلهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ، الَّذِي يُعَزِّينَا فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا، حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّيَ الَّذِينَ هُمْ فِي كُلِّ ضِيقَةٍ بِالتَّعْزِيَةِ الَّتِي نَتَعَزَّى نَحْنُ بِهَا مِنَ اللهِ.} (٢ كو ١: ٣، ٤). هكذا راينا حبقوق النبي ينشد ترنيمة الفرح وسط الظروف المحيطة به من أعداء وظروف اقتصادية صعبة { فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ، وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ. يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونَةِ، وَالْحُقُولُ لاَ تَصْنَعُ طَعَامًا. يَنْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ، وَلاَ بَقَرَ فِي الْمَذَاوِدِ، فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي. اَلرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي، وَيَجْعَلُ قَدَمَيَّ كَالأَيَائِلِ، وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي.} (حب ٣: ١٧-١٩)
+ لقد وعد السيد المسيح تلاميذه بانه يعطيهم الفرح { لكي يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم} (يو 15: 11). الله يستجيب لطلباتنا ليكون فرحنا كاملاً { وَلكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضًا فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ إِلَى الآنَ لَمْ تَطْلُبُوا شَيْئًا بِاسْمِي. اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا، لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً. }(يو ١٦: ٢٢، ٢٤). الفرح نطلبه بايمان من الله كثمرة لعمل الروح القدس فينا وياتي من علاقة عميقة بالله، وليس مجرد انفعال نفسي. وفي تسبحة القديسة مريم العذراء نراها تبتهج بالله مخلصها في سيمفونية تسبيح وشكر لله { فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ}(لو ١: ٤٦-٤٩). فهل نحن نفرح بخلاص الله وعمله معنا ونتأمل محبته العاملة في الأحداث من اجلنا ونفرح حتى بنجاح وعمل الله مع اخوتنا {فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ.} (١ كو ١٢: ٢٦).
+ الله لا يشاء هلاك أحد بل يفرح بخاطئ واحد يتوب فعلينا ان نتوب عن كل شر وخطية ونصلي وندعو بمحبة لتوبة البعيدين لنفرح ونفرح الله وملائكته وقديسيه { أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ هكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارًّا لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ. }(لو١٥: ٧). وفي عودة الأبن الضال ورجعوه لأبيه قال ألأب لأبنه الأكبر المتذمر { وَلكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لأَنَّ أَخَاكَ هذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالُا فَوُجِدَ».} (لو ١٥: ٣٢). لنسعى أذاً لتوبة الجميع لنفرح الله والسمائيين.
ثانياً: الفرح الروحي في فكر آباء الكنيسة ..
+ القديس أثناسيوس الرسولي يؤكد أن الفرح الحقيقي هو نتيجة اتحاد النفس بالمسيح، وأن الانتصار على الخطية يهب الإنسان سلامًا وفرحًا داخليًا.
+ أما القديس مقاريوس الكبير فيرى أن الفرح هو علامة سكنى الروح القدس في القلب، إذ قال: "حيثما يوجد الروح القدس، يكون الفرح والراحة الحقيقية. ويشدد ألقديس أبولو علي أهمية الفرح كعلامة للبنوة لله والتمتع بمحبته الله وابوته وبوعده لنا بملكوته السماوي.
+ ويشدد القديس يوحنا ذهبي الفم علي أن الفرح الروحي لا يعتمد على الظروف الخارجية، بل ينبع من القلب الذي يتحد بالرب، حتى وسط الألم والاضطهاد.
+ يرى القديس اغسطينوس ان الفرح هو في الارتباط بالله ويقول "إن شئت أن يكون فرحك ثابتاً باقياً التصق بالله السرمدي ذاك الذي لا يعتريه تغيير" ويرجع القديس اغسطينوس الفرح الي عطية الروح القدس المعزى الذي يعطى الرجاء في محبة الله وإيمان بغفرانه لخطايانا ويعطى فهم عميق للألم حتى أن القديسين يفرحون بالألم { اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا. وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ.} (يع ١: ٢-٤).
+ يكتب قداسة البابا شنوده الثالث عن الفرح الروحي باعتباره ثمرة حياة التوبة، إذ قال: "الإنسان التائب يعيش فرح الغفران، وفرح الشركة مع الله، وفرح النصرة على الذات".
ثالثاً: الفرح من منظور علم النفس
+ في علم النفس الإيجابي، يعرّف الفرح كحالة من المشاعر الإيجابية المرتبطة بالرضا والقبول والامتنان ويرتبط بالمشاعر الإيجابية والادراك الذاتي والأنجازات (Seligman, 2002). يُعتبر الفرح مؤشرًا على الصحة النفسية، ومصدرًا للتوازن العاطفي.
+ العلاقة بين الروح والنفس.. إن الفرح الروحي يُسهم في تعزيز المناعة النفسية ضد الاكتئاب والقلق. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن الممارسات الروحية (مثل الصلاة، التسبيح، التأمل) ترتبط بارتفاع مستوى المشاعر الإيجابية (Koenig, 2012). فالفرح يرفع قدرة الإنسان على مواجهة الضغوط، وينشط الجهاز العصبي الإيجابي، ويزيد من إفراز هرمونات السعادة مثل السيروتونين والدوبامين.
رابعاً: تكامل الرؤية الروحية والنفسية
الفرح الروحي يتجاوز الفرح النفسي لأنه متجذر في خبرة الاتحاد بالله. ومع ذلك، يتكامل الاثنان في حياة الإنسان فالفرح الروحي يعمّق الفرح النفسي ويمنحه معنى أبدي والممارسات النفسية كالتفكير الإيجابي وإدارة الضغوط تهيئ النفس لقبول عطية الفرح الروحي.
والكنيسة القبطية تعلّم المؤمن أن الفرح لا ينفصل عن الصليب، فوسط الألم يوجد رجاء وفرح، وهذا ينسجم مع رؤية علم النفس لمفهوم النمو بعد الصدمات.
+ إن الفرح الروحي هو عطية إلهية تثمر الشركة مع المسيح، وهو في فكر الكنيسة القبطية علامة أساسية لحياة الإنسان الجديد. بينما ينظر علم النفس إلى الفرح كعامل من عوامل الصحة النفسية، فإن التكامل بين النظرتين يكشف أن الفرح الروحي يعلو فوق الظروف، ويحوّل الألم إلى رجاء. إنه الفرح الذي يختبره المؤمن يعمق إيمانه بخلاص الله ومحبته وسلامه، فيكون شهادة للعالم عن حضور الله في النفس البشرية.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
- الكتاب المقدس: العهد الجديد.
- أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.
- مقاريوس الكبير، العظات الروحية.
- يوحنا ذهبي الفم، العظات على رسالة فيلبي.
- شنوده الثالث، الفرح الروحي. القاهرة: مكتبة الأنبا رويس.
- Seligman, M. E. P. (2002). Authentic Happiness. New York: Free Press.
- Koenig, H. G. (2012). Religion, Spirituality, and Health: The Research and Clinical Implications. ISRN Psychiatry