القداسة هي دعوة عظمى التي يوجّهها الله لكل إنسان: { كونوا قديسين لأني أنا قدوس} (1بط 1: 15–16؛ لا 19: 2). فالجميع مدعو لحياة القداسة فهى ليس امتياز لفئة محدودة من الخدام بل هي الطريق الطبيعي الذي يسلكه كل مؤمن في المسيح ليصير { هيكلاً للروح القدس}(1كو 6: 19). والمعني اللغوي للقداسة" قدّس" يعني: ميَّز، نزّه، كرّس. فعندما قال الرب يسوع المسيح {وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ. }(يو ١٧: ١٩). تعني انه كرس ذاته من أجلنا وفي العبرية كلمة קדש (قَدَش) تشير إلى الانفصال عن الدنس والتخصيص لله. وفي اليونانية كلمة ἅγιος تعني مقدس، مكرّس للرب. إذاً القداسة ليست فقط «طهارة» سلبيّة، بل «تكريس» إيجابي للحياة لله.
اولاً: القداسة في الكتاب المقدس
+ الله هو قدوس { مَنْ مِثْلُكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ؟ مَنْ مِثْلُكَ مُعْتَزًّا فِي الْقَدَاسَةِ، مَخُوفًا بِالتَّسَابِيحِ، صَانِعًا عَجَائِبَ؟} (خر ١٥: ١١). وتسبحه الملائكة ويشهدون لقداسته { السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ، بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ، وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ، وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ: «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ».} (إش ٦: ٢، ٣) وعلينا أن نسبح الله لقداسته {بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ.}(مز ١٠٣: ١) كما أننا مدعوين للقداسة { تكونون لي قديسين لأني أنا الرب قدوس}(لا 20: 26). وان كانت القداسة قديماً مرتبطة بالعبادة والطهارة الطقسية، لكنها تعني بالأساس تكريس الشعب لله.
+ اما في العهد الجديد فقد تجسد الأبن الوحيد، كلمة الله ليقدس الجسد الإنساني ككل ويهبنا أمكانيات القداسة كعطية منه. وأعلن لنا قداسة الله، وأنه مصدر تقديسنا {الذي صار لنا حكمة من الله وبرًّا وقداسة وفداء} (1كو 1: 30). فالقداسة ليست وصية فقط بل عطية { هذا هو مشيئة الله قداستكم} (1تس 4: 3). وثمر لعمل الروح القدس فينا وهي شرط لرؤية الله { اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب} (عب 12: 14).
ثالثاً: القداسة في فكر الآباء
القداسة في فكر الآباء ليست مجرد حالة أخلاقية أو سلوك خارجي، بل هي حياة الشركة مع الله والاتحاد به من خلال عمل الروح القدس. وهي دعوة لكل إنسان أن يصير على صورة المسيح ومثاله ليتقدّس ويتحد بالله في المسيح يسوع كراس الكنيسة بالروح القدس ويرى القديس أثناسيوس الرسولي أن القداسة هي ثمر التجسد: "تأنس الكلمة لكي نتألّه نحن" أي ننال التقديس كعطية الروح القدس فليس القداسة كمال بشريًا، بل عطية إلهية نأخذها بالنعمة. وهي انفصال عن الخطية واتحاد بالله. ويشرح القديس كيرلس الكبير أن القداسة هي الانفصال عن الشر والخطية والاتحاد بالمسيح القدوس. فالقداسة ليست سلبًا (الابتعاد عن الشر فقط) بل إيجابًا (الامتلاء من الله). والقداسة هي حياة مستمرة من التقديس كما يؤكد القديس باسيليوس الكبير أن القداسة ليست حالة لحظة واحدة بل مسيرة يومية، حيث ينقّي الإنسان قلبه ويجاهد ليحيا في الطهارة والنقاوة. وهي عمل الروح القدس فينا وبحسب القديس مقاريوس الكبير، القداسة هي ثمرة الروح القدس الذي يسكن في القلب ويحوّله إلى هيكل مقدس. فالروح القدس هو الذي يقدّس الأسرار والإنسان معًا. والقديس إيرينيئوس يوضح أن القداسة هي إعادة تشكيل صورة الله في الإنسان، التي تشوّهت بالسقوط، لكي يعود ويصير "إنسانًا كاملًا في المسيح يسوع". القداسة في فكر آباء الكنيسة هي حياة الاتحاد بالله، وعمل النعمة الإلهية في الإنسان، وسير مستمر نحو الكمال المسيحي، لينمو المؤمن ليصير أيقونة حية للمسيح وسط العالم. ليس القداسة أن نعتزل العالم، بل أن نعيش وسطه ونكون نورًا فيه.
ثانياً: القداسة والحياة الروحية
- أهمية القداسة
+ نسير في طريق القداسة لكى نعاين الله { اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ}(عب ١٢: ١٤). وقد سار في طريق القداسة الكثيرين من قبلنا وهم سحابة شهود محيطة بنا لكى نجاهد في صبر ناظرين الي رئيس إيماننا ونتبع خطواته { لِذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ الشُّهُودِ مِقْدَارُ هذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا، لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْل، وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ.} (عب ١٢: ١، ٢).
+ القداسة والقديسين هم شهادة لمسيحنا القدوس وعمله في النفس البشرية ليصير المؤمن إنجيل معاش بسلوكه الحسن {فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.} (مت ٥: ١٦)
+ القداسة ليست التزامًا أخلاقيًا فقط، بل شركة مع الله وعشرة حب فيها نثبت في المسيح ونتقوى في إيماننا الأقدس { فَإِذْ لَنَا هذِهِ الْمَوَاعِيدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ. }(٢ كو ٧: ١)
٢- كيف نقتني القداسة
+ التوبة اليومية: كأساس النمو الروحي يوما فيوم.
+ الصلاة والأسرار: سر التناول يعطينا عربون الحياة المقدسة.
+ الصوم والزهد: ترويض الجسد وتحرير الروح.
+ العمل الروحي والجهاد : مقاومة الأفكار والشهوات.
+ الإرشاد الروحي: الأب الروحي يحمي من الانحراف ويقود إلى النضج.
خامساً: نماذج من سير القديسين
تذخر كنيستنا القبطية بقديسين من كل الفئات والاجيال في كل العصور..
١- فمن قديسى الرهبنة نرى القديس أنطونيوس الكبير الذي ترك العالم وذهب إلى البرية، عاش حياة نسك وصلاة وصار مثالًا وأبا لكل الرهبان. والقديس مكاريوس الكبير، مؤسس برية شيهيت، عاش في حياة صلاة وصوم عميق، وتميز بروح التواضع والرحمة. والقديس الانبا باخوميوس الكبير اب ومؤسس نظام الشركة في الرهبنة، جمع الرهبان تحت قانون جماعي.
٢- من الشهداء نرى القديسة دميانة التي استشهدت معها أربعين عذراء في زمن الاضطهاد بسبب تمسكهن بالإيمان. والقديس أبسخيرون القلينى أحد قادة الجيش، شهد للمسيح بكل شجاعة حتى استشهد.
٣- من الآباء البطاركة والأساقفة، القديس أثناسيوس الرسولي (البطريرك الـ20): دافع عن الإيمان ضد هرطقة أريوس، وحُفظ له لقب "حامي الإيمان". والقديس كيرلس الكبير ،عمود الدين بطريرك الإسكندرية الذي واجه هرطقة نسطور وحفظ عقيدة التجسد.
٤- من العلمانيين القديس يوليوس الإقفهصي كاتب سير الشهداء الذي كرّس حياته لجمع وتوثيق سير الشهداء.
والقديسة فيرينا التي علمت الشعب السويسري النظافة والصحة والنظافة، وصارت مثالًا للقديسة العلمانية الخادمة. هذه بعض امثلة توضح تنوع القداسة في الكنيسة القبطية التي تمتلي بهم السماء وهم سحابة شهود تشفع فينا.
سادساً: البعد النفسي والروحي
علم النفس الروحي يرى أن القداسة تعني انسجام قوى النفس من العقل للتأمل في الحق، والإرادة للجهاد ضد الشر، والعاطفة للمحبة. من هنا فالقداسة هي صحة روحية ونفسية تجعل الإنسان حرًّا من عبودية الخطية.
القداسة ليست ترفًا روحيًا بل دعوة إلزامية، هدفها أن يصير الإنسان أيقونة لله على الأرض. إنها اتحاد بالله من خلال التوبة والإيمان والجهاد المستمر، وهي أيضًا شهادة حيّة للعالم. وهي طريق مفتوح لكل مسيحي في الكنيسة، وفي البيت، وفي المجتمع. وكما قال القديس مقاريوس: «كما أن النار تحرق الشوك، كذلك الروح القدس يحرق خطايا النفس».
المراجع
الكتاب المقدس
- الكتاب المقدس
- أثناسيوس الرسولي، حياة أنطونيوس.
- يوحنا السلمي، السلم إلى السماء.
- القديس يوحنا الذهبي الفم، عظات على إنجيل متى.
- سامي حبيب، القداسة في فكر الكنيسة الأولى، مكتبة المحبة – القاهرة.
- «Ladder of Divine Ascent», St. John Climacus, Cistercian Publications.

