أولاً: معنى الكمال المسيحي
الكمال المسيحي لا يعني العصمة من الخطأ أو الخلو من الضعف البشري، بل يشير إلى حالة النضوج الروحي والامتلاء بالمحبة الإلهية التي بها يصير الإنسان صورة حيّة للمسيح. وقد دعانا الرب يسوع للكمال { فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل} (مت 5: 48). هذه الدعوة هي أساس مفهوم الكمال في المسيحية، فهي ليست مجرد وصية أخلاقية، بل دعوة للاتحاد بالله الذي هو الكمال ذاته.
+ البعد اللغوي : كلمة "كامل" في الأصل اليوناني (Τέλειος – Teleios) تعني "تام، ناضج، قد بلغ غايته". فهي تشير إلى اكتمال الغاية أكثر من الكمال المطلق. وبالتالي، الكمال المسيحي هو السير نحو الامتلاء في المسيح. وترجع أهمية الكمال المسيحي
إلي حفظ صورة الله في الإنسان الذي خُلق على صورة الله ومثاله (تك 1: 26)، والكمال هو استعادة لهذه الصورة التي شُوّهت بالخطية. والحاجة الي التشبه بالمسيح فغاية الحياة المسيحية هي أن { نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد}(2 كو 3: 18).
والكمال غاية خلاصنا وليس هدفاً ثانوياً، بل هو جوهر الخلاص: {هذا هو مشيئة الله قداستكم}(1 تس 4: 3).
الكمال يقود إلى انسجام النفس مع الله والآخرين، فيصير القلب مستودع محبة وشهادة للعالم فالقديسون الكاملون صاروا نوراً للعالم (مت 5: 14-16) ، فجذبت حياتهم الكثيرين للإيمان.
ثانياً: وسائل الوصول إلى الكمال المسيحي
- النعمة الإلهية
الكمال نعمة لا يقتنيها الإنسان بمجرد جهده. يقول القديس أثناسيوس الرسولي: "الله صار إنساناً لكي يصير الإنسان إلهياً بالنعمة". فالنعمة ترفع الطبيعة البشرية وتثبتها في الله.
- الجهاد الروحي
مع النعمة، مطلوب من الإنسان أن يجاهد:
- بالصلاة الدائمة (1 تس 5: 17).
- بممارسة الأسرار، خاصة الإفخارستيا التي توحّدنا بالمسيح الكامل.
- بالصوم وضبط النفس، كما أوصى الرب (متى 6).
- المحبة الكاملة
المحبة هي تاج الكمال: { وَعَلَى جَمِيعِ هذِهِ الْبَسُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رِبَاطُ الْكَمَالِ.} (كو ٣: ١٤). ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "غاية كل الوصايا هي المحبة، فمن بلغها فقد بلغ الكمال".
- الاتضاع
الطريق إلى الكمال يمر عبر الاتضاع. قال القديس أنطونيوس الكبير: "رأيت جميع فخاخ العدو منتشرة على الأرض، فتنهدت وقلت: من ينجو منها؟ فأجابني صوت: المتضعون ينجون".
- القدوة وسير القديسين
سير الآباء القديسين هي مدارس عملية للكمال:
- القديس أنطونيوس الكبير: بلغ الكمال بالنسك والوحدة والصلاة المستمرة.
- القديس أثناسيوس: حفظ الإيمان في مواجهة الهرطقات، مُظهراً أن الكمال هو الثبات في الحق.
- القديس مكاريوس الكبير: عاش حياة الطهارة الداخلية، وقال: "القلب الذي قد صار مسكناً لله، هذا هو الإنسان الكامل".
- القديس أغسطينوس: مثال للتوبة التي تقود إلى الكمال، إذ انتقل من حياة الخطية إلى حياة الاتحاد بالمسيح.
ثالثاً: الكمال المسيحي بين الحاضر والأبدية
الكمال المسيحي يبدأ هنا على الأرض، لكنه لا يُستكمل إلا في الأبدية: { الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحاً هو يكمل إلى يوم يسوع المسيح} (في 1: 6).
يؤكد القديس غريغوريوس النيسي أن الكمال ليس حالة جامدة، بل هو حركة دائمة نحو الله: "الكمال الحقيقي هو في التقدم المستمر بلا توقف في محبة الله".
+ الكمال المسيحي ليس مطلباً مستحيلاً، بل هو دعوة إلهية إلى حياة الشركة مع الله، تتحقق بالنعمة والجهاد الروحي معاً. ومن خلال المحبة، التواضع، والاقتداء بالقديسين، يسير المؤمن في طريق الكمال، حتى يكتمل في المسيح يسوع الذي هو "رأس كل كمال" (كو 2: 10).
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
- الكتاب المقدس
- القديس أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.
- القديس أنطونيوس الكبير، أقوال الآباء البرية.
- القديس يوحنا الذهبي الفم، العظة على متى.
- القديس أغسطينوس، الاعترافات.
- القديس غريغوريوس النيسي، حياة موسى.
- القمص تادرس يعقوب ملطي، تفسير الكتاب المقدس.
- الأنبا غريغوريوس، اللاهوت الروحي.

