+ التجديد هدف هام في حياتنا الروحية، فالإيمان ليس بالتمسك بممارسات شكلية، بل بالدخول في علاقة حيّة مع المسيح القائم من بين الأموات، الذي يصنع من الإنسان العتيق إنساناً جديداً. وهذا ما وعدنا به الله قديماً وقال: {وَأَرُشُّ عَلَيْكُمْ مَاءً طَاهِرًا فَتُطَهَّرُونَ. مِنْ كُلِّ نَجَاسَتِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَصْنَامِكُمْ أُطَهِّرُكُمْ. وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ. وَأَجْعَلُ رُوحِي فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَجْعَلُكُمْ تَسْلُكُونَ فِي فَرَائِضِي، وَتَحْفَظُونَ أَحْكَامِي وَتَعْمَلُونَ بِهَا.} (حز ٣٦: ٢٥-٢٧). ولقد اتم الله وعده في العهد الجديد بالميلاد من فوق : { أَجَابَ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ.} (يو ٣: ٥). لنولد من الروح القدس { اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ.} (يو ٣: ٦). لكى نسلك بالروح ولا نتمم شهوة الجسد. فينمو المؤمن بالتوبة وقبول عمل الله الخلاصي وتغيير الذهن ليكون لنا فكر المسيح : {إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة: الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا} (2كو 5: 17).
+ الروح القدس هو القوة الإلهية والمحرك الأساسي للحياة الجديدة في المسيح { تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ، وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ. }(مز ١٠٤: ٣٠). فالروح القدس يجدد حياتنا ويمنحنا نعمة الإيمان ويفهم المؤمن خطورة الخطية ويبكته عليها ليتوب ويحثنا علي عمل البر والخير ويمكننا من العيش حسب ارادة الله الصالحة لننال نعمة التبرير والتقديس والأتحاد بالمسيح ونعيش في شركة مع الكنيسة والقديسين كأهل بيت الله. فالدعوة للتجديد ليست مجرد تغيير خارجي أو سلوكي، بل هي مسيرة داخلية تشمل النفس والروح والجسد لكى نعرف ونختبر ارادة الله الصالحة والكاملة { فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ. وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ.} (رو ١٢: ١، ٢). ومن هنا يأتي التلاقي بين الفكر الآبائي الذي يركز على عمل النعمة والروح القدس، وبين علم النفس الذي يهتم بسلامة الإنسان ونموه الداخلي.
أولاً: التجديد في فكر آباء الكنيسة
+ يرى القديس أثناسيوس الرسولي أن سرّ التجسد والفداء هو الذي أعطى الإنسان إمكانية العودة إلى الصورة الأولى، بل والنمو إلى ملء قامة المسيح. فالروح القدس يعمل في الأسرار المقدسة ليجدد القلب ويبدل الطبيعة الساقطة لكى نتمتع بالحرية الداخلية وهذا ما يؤكده القديس أغسطينوس فالتجديد يعني تحرر الإرادة من عبودية الشهوات والأنانية، والانفتاح على محبة الله التي تعطي للنفس حرية حقيقية. مع الجهاد الروحي والتوبة المستمرة.
ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم، أن التجديد بعد المعمودية لا يتم دفعة واحدة بل عبر مسيرة توبة يومية ديناميكيه فيها يجاهد المؤمن ضد الخطيئة، ويتغذى بكلمة الله والإفخارستيا، لينمو "الإنسان الباطن". فالتجديد هو دخول الإنسان في مسيرة الاتحاد بالله بالنعمة حتى تتحول النفس تدريجياً إلى صورة المسيح.{ لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ، أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ، لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ.}(أف ٣: ١٦، ١٧)
ثانياً: البعد النفسي للتجديد عند علماء النفس
يرى إريك إريكسون أن الإنسان في نموه يحتاج لتكوين هوية متكاملة. هذا يتلاقى مع خبرة الإيمان المسيحي حيث يجد الإنسان هويته الجديدة في المسيح. ويتحرر من الصدمات والجراح النفسية. ويشير علماء النفس الحديث إلى أن كثيراً من الناس يعيشون أسرى ماضيهم، والتجديد يتطلب مواجهة الجراح الداخلية والتصالح معها. إن تجديد الذهن هو عملية تغيير للأفكار السلبية ورفض ما هو هدام لتبني أفكار إيجابية ومعرفة الحق الإلهي { إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلاَمِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تَلاَمِيذِي، وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ.}(يو ٨: ٣١، ٣٢). مما يؤدى إلي تغيير نظرتنا للامور وتغير سلوكنا للأفضل وتنمية علاقاتنا في الاتجاة السليم. { هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ.} (٢ كو ١٠: ٥). من هنا يتكامل العلاج النفسي مع الروحانية المسيحية التي تقدم الغفران والمصالحة.
كما يبرز علم النفس الإيجابي أهمية الرجاء، فالمسيحية تقدم "الرجاء الحيّ" في المسيح المقام، مما يهب للنفس طاقة جديدة للتغلب على اليأس والاكتئاب. الله يجدد شباب النفس ويعطى قوة في الضعف ونعمة للعمل والتغيير للأفضل {يُعْطِي الْمُعْيِيَ قُدْرَةً، وَلِعَدِيمِ الْقُوَّةِ يُكَثِّرُ شِدَّةً. اَلْغِلْمَانُ يُعْيُونَ وَيَتْعَبُونَ، وَالْفِتْيَانُ يَتَعَثَّرُونَ تَعَثُّرًا. وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ. يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ. }(إش ٤٠: ٢٩-٣١). إن علم النفس يكشف عن الترابط بين الصحة الجسدية والحالة النفسية. الفكر الآبائي سبق ذلك بالتأكيد على أن النعمة الإلهية تقدس الروح والجسد والنفس معاً، لتصير حياة الإنسان كلها مجالاً لعمل الله.
ثالثاً: التكامل بين الرؤية الآبائية والنفسية
الآباء يركزون على النعمة والتوبة والصلاة والأسرار كوسيلة للتجديد. وعلماء النفس يقدمون آليات عملية لفهم الذات، التحرر من الصدمات، وتنمية الشخصية. ويلتقي الطرفان في أن الإنسان الجديد يحتاج إلى: شفاء داخلي من ماضيه. ومعنى وهدف أعمق لحياته. وحرية داخلية تجعله يعيش بالحب لا بالخوف.
+ إن التجديد الروحي والنفسي في المسيحية ليس مجرد تحسين سلوكي أو تدريب نفسي، بل هو خلق جديد يحققه المسيح بالروح القدس، ويتجلى في حياة متجددة، قادرة على مواجهة ضعفها ونقائصها بثقة ورجاء. يقول القديس مقاريوس الكبير: "النفس التي امتلأت من الروح القدس تصير كلها نوراً وسلاماً وفرحاً"، وهو ما يلتقي مع رؤية علماء النفس بأن التجديد الحقيقي يجعل الإنسان أكثر نضجاً واتزاناً وسلاماً داخلياً.
+ إن حياتنا هى رحلة موت مع المسيح وقيامة معه ليقول المؤمن { مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي. }(غل ٢: ٢٠). المؤمن في نموة يميت الإنسان العتيق مع الخطية والرياء والحسد وكل شر وينقاد بالروح القدس ويحيا بفكر المسيح كخليقة جديدة مستنيرة بالإيمان ويستنير ويضئ لغيره الطريق { فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.} (مت ٥: ١٦)، أمين.

