النمو الروحي والنفسي هو عملية ديناميكية متكاملة تهدف إلى بلوغ النضج الإنساني الكامل. إن المؤمن مدعو { لأن ينمو في النعمة وفي معرفة ربنا ومخلّصنا يسوع المسيح}(2بط 3: 18). ويرى الآباء أن النمو الروحي هو ارتقاء تدريجي نحو الثبات والاتحاد بالله، فيما يؤكد علماء النفس أن النمو النفسي هو ارتقاء نحو تحقيق الذات والتوازن الداخلي. ويجب علي المؤمن ان ينمو في حياته الروحية باستمرار واذ توقف عن النمو تتوقف حياته ثم تتراجع وتضعف الي أن تموت، فالانسان كالزرع والاشجار لكي يأتي بالثمار المطلوبة عليه أن ينمو ويثمر وقيل عن صموئيل { وَأَمَّا الصَّبِيُّ صَمُوئِيلُ فَتَزَايَدَ نُمُوًّا وَصَلاَحًا لَدَى الرَّبِّ وَالنَّاسِ أَيْضًا.} (١صم ٢: ٢٦). وكما جاء عن يوحنا المعمدان { أَمَّا الصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ.} (لو ١: ٨٠). وكما أن الزرع يحتاج لعوامل للنمو كالتربة الجيدة والمناخ المناسب والغذاء المناسب ومكافأة الآفات التى يتعرض لها. نحن نحتاج لبيئه روحية وتغذية ورعاية روحية وبعد عن الصداقات المعثرة { لاَ تَضِلُّوا: فَإِنَّ الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ} (١ كو ١٥: ٣٣). فالنمو الروحي يحتاج لاسرة مسيحية صالحة تهتم بتربية ابنائها تربيه سليمة بعيدا عن السلبيات وقدوة صالحة من الاسرة وخدام الكنيسة في الكلام والسلوك والاهتمام بارتباط ابنائنا منذ الصغر بالاسرار والصلاة والعشرة مع المسيح { اَلصِّدِّيقُ كَالنَّخْلَةِ يَزْهُو، كَالأَرْزِ فِي لُبْنَانَ يَنْمُو. مَغْرُوسِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ، فِي دِيَارِ إِلهِنَا يُزْهِرُونَ. أَيْضًا يُثْمِرُونَ فِي الشَّيْبَةِ. يَكُونُونَ دِسَامًا وَخُضْرًا، }( مز ٩٢: ١٢-١٤)
أولًا: النمو الروحي في فكر الآباء
+ التوبة كأساس للنمو الروحي
يقول القديس أثناسيوس الرسولي: "التوبة هي عودة النفس إلى حالتها الأولى التي خُلقت عليها". فالتوبة ليس مجرد ندم لحظي، بل بداية تجديد داخلي للنفس يجعلها مستعدة للنمو في النعمة. {فَكَمَا قَبِلْتُمُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ الرَّبَّ اسْلُكُوا فِيهِ، مُتَأَصِّلِينَ وَمَبْنِيِّينَ فِيهِ، وَمُوَطَّدِينَ فِي الإِيمَانِ، كَمَا عُلِّمْتُمْ، مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ بِالشُّكْرِ. } (كو ٢: ٦، ٧)
+ الصلاة والتأمل في كلمة الله
يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم أن الصلاة هي "معراج النفس إلى الله". وكلمة الله تُنقّي الفكر وتغذيه وتعزيه وقول الرب: { أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به} (يو 15: 3). إن قراءة الإنجيل والكتب الروحية والتأمل فيها وطاعتها والعمل بها يجعل النفس تنمو روحيا { لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ.} (عب ٤: ١٢)
+ الجهاد ضد الأهواء
النفس البشرية معرضة لحروب إبليس وآفات روحية من داخل ومن خارج وعليها أن تحيا في يقظة روحية وتتقوى في الرب وتتسلح باسلحة الحروب الروحية وتنتصر { أَخِيرًا يَا إِخْوَتِي تَقَوُّوْا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ. الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ.} (أف ٦: ١٠، ١١). ويوضح القديس مار إسحق السرياني أن: "القلب المأسور بالأهواء لا يستطيع أن يتذوق حلاوة الله". علينا ان نجاهد للتحرر من الغضب، والكبرياء، والشهوة كطريق للنضج الروحي.
+ المحبة والنمو الروحي
إن المحبة هى غاية الناموس والانبياء ووصية الرب يسوع لنا { تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ.}. (مر ١٢: ٣٠، ٣١). والمحبة رباط الكمال { فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفًا، وَتَوَاضُعًا، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى.كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا. وَعَلَى جَمِيعِ هذِهِ الْبَسُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رِبَاطُ الْكَمَالِ. } (كو ٣: ١٢-١٤). يقول القديس أغسطينوس: "أحبب وافعل ما تشاء". المحبة تجعل الإنسان يخرج من دائرة الأنانية ليدخل في الاتحاد بالله والآخرين.
ثانيًا: النمو النفسي في فكر علماء النفس
+ هرم ماسلو للحاجات
يرى أبراهام ماسلو (1943) أن تحقيق الذات (Self-actualization) هو أسمى مراحل النمو النفسي بعد إشباع الحاجات الأساسية. ويقابل هذا دعوة الآباء للنضوج عبر الشبع الروحي والاتحاد بالمطلق. أما إريكسون فيوضح إريكسون (1950) أن كل مرحلة عمرية تضع الإنسان أمام أزمة وجودية. والنجاح في تجاوز هذه الأزمات يؤدي إلى نمو سليم متوازن.
+ علم النفس الإيجابي (Positive Psychology) يذكر مارتن سليجمان (2002) أن النمو النفسي يتحقق عبر تنمية الفضائل مثل الامتنان، الرجاء، والمعنى. وهذه القيم تتناغم مع التعليم المسيحي الذي يشدد على الرجاء والإيمان والمحبة (1كو 13: 13).
ثالثًا: التكامل بين النمو الروحي والنفسي
+ التوبة وإعادة بناء الهوية
التوبة عند الآباء تعادل عملية "إعادة الهيكلة المعرفية" (Cognitive restructuring) في علم النفس. كلاهما يسعى لتغيير نظرة الإنسان لذاته وللحياة. والصلاة كعلاج نفسي. وقد أظهرت أبحاث (Koenig, 2012) أن الصلاة والتأمل يخفضان القلق والتوتر، وهو ما سبق أن أكده القديس باسيليوس الكبير بقوله: "كما أن الهواء ضروري للجسد، هكذا الصلاة ضرورية للنفس." والجهاد ضد الأهواء يحرر من الانقسام الداخلي فيرى الآباء أن التحرر من الأهواء هو شفاء للنفس، فيما يسميه يونغ "تحقيق التكامل النفسي" (Psychic Integration).
+ المحبة وتحقيق الذات
المحبة في الفكر الآبائي هي كمال النمو الروحي، بينما تحقيق الذات عند ماسلو هو كمال النمو النفسي. كلاهما يلتقيان في تجاوز الأنا الضيقة نحو العطاء والحرية.
+ النمو الروحي والنفسي مسيرة واحدة تقود الإنسان نحو النضج والاكتمال. الفكر الآبائي يقدم الطريق عبر التوبة، الصلاة، الجهاد ضد الأهواء، والمحبة، بينما يقدم علم النفس أدوات لفهم مراحل النمو، وتفسير التغيرات الداخلية للنفس، ودعم عملية الشفاء النفسي. وعندما يتكامل هذان البُعدان، يصبح الإنسان "كاملاً في المسيح" (كو 1: 28)، ممتلئًا بالسلام الداخلي والاتزان الروحي والنفسي.
راجع
من التراث الآبائي والكتاب المقدس
- القديس أثناسيوس الرسولي: ضد الوثنيين وفصل التجسد.
- القديس يوحنا الذهبي الفم: عظات عن الصلاة.
- القديس مار إسحق السرياني: المقالات الروحية.
- القديس أغسطينوس: العظة السابعة على رسالة يوحنا.
- القديس باسيليوس الكبير: عن الروح القدس.
- Erikson, E. (1950). Childhood and Society. New York: Norton.
- Seligman, M. (2002). Authentic Happiness. New York: Free Press.
- Koenig, H. (2012). Religion, Spirituality, and Health: The Research and Clinical Implications. ISRN Psychiatry.
- Jung, C. G. (1959). The Archetypes and the Collective Unconscious. Princeton University Press.

