أولاً: القلب كمركز للحياة الروحية ..
القلب ليس مجرد عضو بيولوجي، بل ينظر اليه كمركز الوجود الإنساني من حيث الفكر والإرادة والعاطفة والقرارات والمشاعر. في الكتاب المقدس واللاهوت الآبائي، يُعتبر القلب موضع اللقاء مع الله، بينما في الطب وعلم النفس الحديث يُنظر إليه كوحدة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحالة النفسية والجسدية. والله كخالق لجبلتنا يؤكد أهمية القلب في حياتنا الروحية ويوصي في الكتاب قائلا: { فوق كل تحفظ احفظ قلبك لان منه مخارج الحياة } (ام 4 : 23). ويقصد بالقلب ليس فقط مضخة الدم التي بها ينقل الدم النقي في الشرايين والاوردة لكل خلايا الجسد بل يقصد به أعماق الإنسان ومشاعره ونياته، ولهذا نعمل علي نقاوة القلب لكى نرى الله: { طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ.} (متى ٥: ٨). ونقاوة القلب تعني طهارته وعدم التوائه فلا يعرج المؤمن بين محبة الله، ومحبة العالم { تحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك}(مت 22 : 37). والمؤمن أذ يعرف ضعفه فانه يطلب من الروح القدس أن يقوم بحراسة القلب وتقديسه لينقاد لروح الله ولا يترك مجالاً لفكرٍ شريرٍ أو نظرةٍ رديئة أن تقتحمه { القلب الحكيم العاقل يمتنع من الخطايا وينجح في اعمال البر} (سير 3 : 32). بالجهاد الروحي وعمل النعمة يصفو القلب ويتنقّى باشتياقاته وأحاسيسه ودوافعه فلا يطلب إلا الله وحده، فيعاينه بالإيمان ويحل ملكوت الله داخل القلب النقي ويصير مسكناً لله.
+ من اجل نقاوة قلوبنا نحرص علي تقديس حواسنا وطهارة فكرنا وتغذيته بافكار مقدسة فيكون لنا فكر المسيح، ونعمل لمحبة الله من كل القلب فتكون لنا مشاعر الحب القوي نحو الله واخوتنا واحشاء رحمة وحنو نحو كل الخليقة. وعندما يتنقي القلب من الخطية ونحيا في مخافة ومحبة لله يحل المسيح بالإيمان في قلوبنا ونعاين جلال مجدة ونتمتع بالشركة والإتحاد به ويصير القلب مكان سكنى روح الله ويستطيع المؤمن أن يعاين الله ويشعر بحضوره معه، ليس بالرؤية أو السماع الحسى، بل بالإحساس الروحى. القلب يحوي العيون التي تُعاين الله هذه العيون يتحدّث عنها الرسول بولس قائلاً: { إنارة عيون قلوبكم} (أف 1: 18). أنها تستنير بالإيمان { لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان} (2 كو 5: 6-7). فمباركين اولئك الساعين لنقاوة قلوبهم من كل غش وخطية، الذين يعيشوا حياة العفة والنقاوة ويغتسلوا ويتطهروا ويتبرروا في دم الحمل هولاء يُعلن الله لهم ذاته بالطريقة التي يحتملها القلب، فإن الله لا يُحد بالنظر ولا بسمع الأذن، بل نعاين الله بالروح { الروح يفحص كل شيء حتى اعماق الله }(1كو 2 : 10). اننا الان ننظر في مرآه، لكن في الأبدية حينئذ سنرى الله وجهاً لوجه. الأن نعرف بعض المعرفة لكن هناك سنمتلئ بمحبة ومعرفة وتسبيح الله { أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ، وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ، وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هذَا، وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اللهَ.} (أي ١٩: ٢٥، ٢٦). سنقوم في اليوم الأخير باجساد روحانية نورانية ممجدة ونكون كملائكة الله.
ثانياً: القلب في فكر الآباء علم النفس والأطباء ..
+ القلب في فكر الآباء هو هيكل الله فيقول القديس مقاريوس الكبير: "قلب الإنسان صغير، لكنه يسع السماء والأرض إذا سكن فيه الله. أما القديس أثناسيوس الرسولي فيقول : "القلب النقي هو الذي يطلب الله وحده ولا ينقسم بين محبة العالم ومحبة الخالق". ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم في عظة له عن التوبة : "ليس شيء أنقى من القلب الذي يعلن لله خطاياه ولا يخفيها عنه". أما القديس يوحنا السلمي فيربط بين نقاوة القلب وفضيلة الهدوء حيث يصفها بأنها باب لمعاينة الله.
+ ومن منظور علم النفس فالقلب هو مركز العواطف والانفعالات ويربط علماء النفس بين العواطف كالقلق، الغضب، الحزن وبين الأعراض الجسدية مثل تسارع ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم. كما يرتبط النقاء النفسي بالنقاء الروحي ويشير العلاج النفسي الحديث إلى أهمية التحرر من الذكريات السلبية وقبول المغفرة من الله وممارسة الغفران للمسيئين الينا لتحقيق سلام داخل النفس وتؤثر الصحة النفسية مباشرة على القدرة على الصلاة والتواصل الروحي، والعكس صحيح.
+ ومن المنظور الطبي فالقلب عضو حيوي يضخ حوالي ٤ الي ٥ لتر في كل دقيقة وبمعدل ٥٧٦٠ الي ٧٢٠٠ لتر في يومياً وتذيد الكمية الي ٣٥ لتر في الدقيقة لدى الرياضيين في اوج نشاطهم ليغذى القلب كل اجهزة الجسم ومكوناته بالتغذية والاوكسجين للقيام بوظائفها الحيوية وللمحافظة علي القلب سليم ينصح الأطباء بنظام غذائي صحي وممارسة الرياضة بانتظام والاقلاع عن التدخين ويوصي الأطباء بزيارة طبيب القلب عند الشعور باعراض قلبية كالم الصدر والدوار أو تورم القدمين وفي حالات الطغط المرتفع وزيادة معدلات الكلوستيرول في الدم.
+ وقد أكدت الدراسات الطبية العلاقة بين الروح والجسد وصحة القلب فأن الصلاة والتأمل يقللان من ضغط الدم ويحسنون من معدل ضربات القلب. وقد ذكرت منظمة الصحة العالمية أن الضغوط النفسية المزمنة من أهم مسببات أمراض القلب والشرايين.
ثالثاً: كيف نحصل على قلب نقي؟
بممارسة الصلاة القلبية الدائمة التي أختبرها الآباء : "يا رب يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ". وبقراءة الكتاب المقدس فان كلمة الله تغذى وتنقي وتعزي وتقوى { أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به} (يو 15: 3). وبالغفران والمصالحة مع الأخرين وباعمال الرحمة يجد الإنسان سلامه وراحة وفرح قلبه. أما العلاج النفسي الحديث فيوصى بتجنب الضغوط النفسية المفرطة وبالتعامل الايجابي لعلاج الغضب والقلق وممارسة الغفران كطريق للسلام الداخلي. ويوصى الأطباء بالوقاية من أمراض القلب بالغذاء الصحي والرياضة والنوم الكافي.
+ إن القلب في المسيحية هو مركز الكيان الروحي والنفسي والجسدي. نقاوته ليست مجرد مشاعر، بل ثمرة عمل النعمة مع التوبة والجهاد. الطب وعلم النفس يؤكدان أهمية السلام الداخلي في الحفاظ على صحة القلب الجسدية. هكذا يلتقي الفكر الآبائي مع العلم الحديث ليؤكدا أن القلب النقي هو أساس الحياة السليمة والقداسة. نصلي ان يطهر الله قلوبنا وينقيها بروحه القدوس ويجعل منها هياكل مقدسه لحلوله ولعمل نعمته لتنبض بمحبته وشكره وتسبحه ويكون لنا قلوب رحيمه تقدم المحبة وتصنع الرحمة مع كل أحد، أمين.
المراجع
الكتاب المقدس
- مقاريوس الكبير، العظات الروحية.
- أثناسيوس الرسولي، ضد الوثنيين.
- يوحنا الذهبي الفم، عظات عن التوبة.
- يوحنا السلمي، السلم
مراجع طبية ونفسية
- Guyton, A.C. & Hall, J.E. (2021). Textbook of Medical Physiology. Elsevier.
- Benson, H. (2000). The Relaxation Response. Harvard Medical School.
- Enright, R. (2015). Forgiveness Therapy. American Psychological Association.
- American Psychological Association (2020). Stress and Heart Health.
- World Health Organization (2022). Cardiovascular Diseases Factsheet.

