+ تُعدّ الروح الإنسانية من أعمق المفاهيم التي شغلت الفكر البشري، إذ تمثل البعد الداخلي والسماوي للإنسان، والسر الذي يميّزه عن بقية المخلوقات. فالروح هي التي تمنح الإنسان القدرة على التفكير والحرية والإبداع، وترفعه من المستوى الغريزي إلى المستوى الروحي والأخلاقي. {اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي.}(يو ٦: ٦٣). وفي اللاهوت المسيحي تُعتبر الروح "نفخة من الله" التي بها صار الإنسان على صورة الله ومثاله. وقد اهتم آباء الكنيسة بتوضيح دور الروح الإنسانية باعتبارها مركز الشركة مع الله والدافع الي الخير والقداسة والفضيلة. بينما ركز علماء النفس أن للروح بعدًا يتجاوز حدود العقل والجسد، ويمنح الإنسان معنى لوجوده، ويعينه على تجاوز الأزمات النفسية وبالروح نميز بين الخير والشر علي مستوى أعمق من العقل. أما علم الاجتماع فقد أبرز أن الروح الإنسانية ليست مجرد بُعد فردي، بل هي أيضًا أساس الضمير الجمعي، والمصدر الذي تنبع منه القيم والأخلاق التي تحفظ المجتمع من الانهيار ولهذا نسعى لمعرفة مفهوم الروح الإنسانية في الفكر الآبائي والعلوم الإنسانية؟ وأهمية الروح ودورها لحياة الفرد وكيف يمكن أن نقويها؟ ونقارن بين التراث الآبائي المسيحي، وعلم النفس لتقديم رؤية متكاملة للروح ودورها في حياة الإنسان المعاصر.
اولاً : الروح من المنظور اللاهوتي الآبائي هى عنصر أساسي في تكوين الإنسان كما يؤكد سفر التكوين أن الإنسان صار حيًّا بعدما نفخ الله في أنفه نسمة حياة (تك 2: 7). فالروح هنا ليست مجرد مبدأ بيولوجي، بل هي عطية إلهية تجعل الإنسان كائنًا روحيًا عاقلًا فبمفارقة الروح للجسد يرجع الجسد الي التراب وتعود الروح الي خالقها {فَيَرْجعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجعُ الرُّوحُ إِلَى اللهِ الَّذِي أَعْطَاهَا.} (جا ١٢: ٧). وفي العهد الجديد الروح الإنسانية تتقدس بالروح القدس الذي يقودها ويرشدها ويعطيها الحكمة والأفراز فيقول بولس الرسول { أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم؟} (1كو 3: 16). وعلينا ان نطيع الله أب الأرواح لنحيا {ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدًّا لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟} (عب ١٢: ٩).
+ وقد أهتم الآباء الرسوليين والمدافعون بتوضيح أن الروح هي عنصر الإلهي في الإنسان فيقول القديس إيرينيؤس في القرن الثاني : «مجد الله هو الإنسان الحي، وحياة الإنسان هي رؤية الله». فالروح تمنح الإنسان القدرة على معرفة الله والألتصاق به والقديس أثناسيوس الرسولي يوضح أن الروح هي ما يجعل الإنسان على صورة الله، وأن سقوطها بالخطية أدى إلى فساد الطبيعة، وقد جاء السيد المسيح ليجدد هذه الصورة. اما القديس باسيليوس الكبير فكتب عن الروح باعتبارها العنصر الذي يمنح الحرية الحقيقية للإنسان، مؤكدًا أن الروح تنفتح على الله بالصلاة والأسرار. ويؤكد التراث الآبائي على أن الروح ليست فكرة نظرية، بل هي محور الحياة الروحية اليومية وبالصلاة تتقوى الروح ووصف القديس غريغوريوس النيسي الصلاة بأنها "تنفس الروح" الذي يجدد علاقة الإنسان بالله. وهكذا فإن الرؤية الآبائية تنظر إلى الروح باعتبارها مركز هوية الإنسان، والوسيلة التي تربطه بالله، ومحور نموه الروحي والأخلاقي.
ثانياً: الروح الإنسانية وعلم النفس
اهتم علم النفس منذ بداياته بمحاولة فهم البُعد الروحي أو الداخلي للإنسان، وإن كان التعبير يختلف من مدرسة إلى أخرى فركز فرويد (1856–1939) على الغرائز الجنسية والعدوانية باعتبارها القوى المحركة للإنسان. ولم يتعامل مع الروح بوصفها كيانًا مستقلاً، بل فسّر المظاهر الروحية والدينية كاستجابات نفسية تعويضية. ومع ذلك، فإن تحليله للصراع الداخلي يربط بين نزعات الإنسان المادية ونداء الضمير الذي يرتبط بالروح.
أما كارل يونغ (1875–1961) فكان أكثر فهما للروح، إذ رأى أن النفس البشرية تتكون من الوعي واللاوعي، وأن في اللاوعي نماذج أولية تعبر عن خبرات روحية مشتركة للبشرية. واعتبر أن غياب البعد الروحي يؤدي إلى اضطرابات نفسية مرتبطة بفقدان المعنى. وأكد على أن الإنسان يحتاج إلى اختبار روحاني داخلي يحقق التوازن بين الوعي وأللاوعي. ويبرز كارل روجرز (1902–1987) من رواد المدرسة الإنسانية في علم النفس علي النزعة التحققّية كقوة داخلية تدفع الإنسان نحو النمو والتكامل، وهو ما يبين أن الروح مبدأ داخلي للارتقاء. كما يؤكد على أن العلاقة الحقيقية مع الذات ومع الآخر شرط لصحة الإنسان النفسية والروحية. واهتم فيكتور فرانكل (1905–1997) الذي أسس مدرسة "العلاج بالمعنى" وقد عاش تجربة معسكرات الاعتقال النازية، حيث لاحظ أن الأشخاص الذين وجدوا معنى لحياتهم استطاعوا البقاء، بينما استسلم الآخرون لليأس. ويرى فرانكل أن الروح الإنسانية هي البعد الثالث في الكيان الإنساني إلى جانب الجسد والنفس وأنها لا تُدمَّر حتى في أقسى الظروف. مما جعله يتخذ شعار لمدرسته: «من له سبب يعيش من أجله يمكنه أن يحتمل أي شيء». والعلاج بالمعنى يساعد الإنسان على إدراك أن الروح هي مصدر الحرية الداخلية، وحتى في المعاناة يمكن اكتشاف معنى جديد للحياة. ومع تطور الدراسات النفسية، ظهر توجه جديد يُعرف بـعلم النفس الإيجابي والروحي، الذي أعاد الاعتبار إلى الروح باعتبارها بُعدًا أصيلًا للإنسان فاليقظة الذهنية تستمد من ممارسات روحية وتأملية، طُورت كأداة علاجية تساعد الفرد على الانتباه للحظة الحاضرة، وإعادة الاتصال ببُعده الداخلي مما يقلل من القلق والاكتئاب، ويعزز التوازن النفسي. ويركز علم النفس الإيجابي وموسسه مارتن سليغمان على الفضائل الإنسانية كالرجاء، الامتنان، المحبة، الإيمان. ويؤكد أن البُعد الروحي هو أحد أعمدة الراحة الروحية. أما الطب النفسي الروحي فيقر بدور الروح والإيمان في العلاج ويدمج بين العوامل الروحية في برامج العلاج النفسي والطبي. وهذا التطور يؤكد علي أن الروح تمنح الإنسان القدرة على البقاء وتجاوز المعاناة وهي عنصر أساسي في الصحة
ثالثاً: كيف ننمي ونخلصها
+ إن للاسرة المسيحية والكنيسة دور هام في تنشئة اولادهم علي الإيمان والأهتمام بارواحهم وخلاصها كاهتمامهم بنموهم الجسدى وصحتهم وتعليمهم ليكونوا قدوة لهم في عالم الميديا وذلك لتنمية الحس الروحي والعلاقة بالله والصلاة فيقول القديس مقاريوس الكبير: "النفس التي تصلي بغير انقطاع تمتد جذورها في السماء"، فالصلاة هي غذاء الروح. كما ان الكتاب المقدس والتأمل فيه نور للروح { سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي} (مز 119: 105). وبالارتباط باسرار الكنيسة وبالتناول والاتحاد بجسد الرب ودمه يجدد حياتنا وتستنير ارواحنا وتقوى وتنموا وتثمر فضائل روحية كالمحبة، الاتضاع، الرحمة... ويقول القديس أنطونيوس: "كما أن السمك لا يعيش خارج الماء، هكذا الروح لا تحيا إلا بالله". إن التوبة المستمرة تجدد الروح وتعيدها إلى نقائها الأول. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "ليس شيء يطهر الروح مثل دموع التوبة". لأن الأهواء كالكبرياء، والشهوة والغضب تظلم الروح. والقديس باسيليوس الكبير يقول: "الروح إذا تنجست بالخطية لا تعكس نور الله". إن الروح الإنسانية لا تخلص بقوتها الذاتية، بل بعمل الروح القدس الذي يقدسها. يقول الرسول بولس: { اللروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله} (رو 8: 16).
+ أننا نعترف انه في ظل العولمة والتغيرات المتسارعة، فان الإنسان يواجه تحديات تهدد روحانيته وكيانه الداخلي ومنها الفردانية المفرطة والبعد عن الله والانشغال بالمادة والميديا والثقافة السطحية وشهوات العالم وهذا يؤدي إلى تراجع دور الروح وفقدان القيم الفاضلة وإقصاء البعد الروحي من الحياة العامة مما جعل الكثيرين يعانون من فراغ وجودي. وهنا تبرز الحاجة لإعادة الاعتبار للروح الإنسانية كعنصر أساسي في حياتنا نعمل علي خلاصها { لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟ }(لو ٩: ٢٥). ورغم فوائد التكنولوجيا، فإن الإفراط في استخدامها يولّد عزلة اجتماعية واغتراب داخلي. لهذا فنحن في حاجة الي تقوية الروح كوسيلة لرقى الفرد ومواجهة الاغتراب والعنف والإرهاب والأنانية وتعزيز قيم السلام والتعاون والتعايش الذي يمنح المجتمع تماسكه واستمراريته وتقدمه ورقيه.

