الجسد الإنساني ليس مجرد مادة أو وعاء يحمل الروح، بل في الفكر المسيحي والإنساني فان الجسد هو كيان ذو كرامة، خلقه الله {حسنًا جدًا}(تك 1: 31)، ليكون شريكًا في الخلاص وحياة الشركة مع الله. وكتب آباء الكنيسة عن مكانة الجسد وعمله، في مواجهة تيارات فكرية كانت تحتقر المادة والجسد كالغنوسية والمانوية. كذلك أهتم علم النفس والاجتماع بالجسد باعتباره بُعدًا أساسيًا للهوية الإنسانية، وعاملاً في الصحة النفسية والتواصل الاجتماعي. لقد تجسد كلمة الله واشترك معنا في الجسد الانساني وجاء عنه:{ وَكَانَ الصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، مُمْتَلِئًا حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ.} (لو ٢: ٤٠). علينا أن نحترم أجسادنا ونربيها في مخافة الله فنحن نجاهد ضد شهوات الجسد لا ضد الجسد كوزنة وعطية مقدسة من الله تعمل مع النفس والروح لخلاصنا { أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ التَّصَرُّفِ السَّابِقِ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ الْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ الْغُرُورِ، وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ، وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ. }(أف ٤: ٢٢-٢٤).
أولاً: الجسد الإنساني في فكر الآباء
الجسد هو خليقة الله الصالحة { فَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ}(تك 2: 7).
والجسد مدعو للمجد والقيامة: { أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ أَجْسَادَكُمْ هِيَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ؟} (1كو 6: 19). ويوصينا الكتاب المقدس بالاهتمام باجسادنا كعطية مقدسة ووزنة من الله { فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ، بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضًا لِلْكَنِيسَةِ. }(أف ٥: ٢٩). يقول القديس إيريناوس " إن الجسد جزء لا يتجزأ من هوية الإنسان، والخلاص يشمل النفس والجسد معًا.
أما القديس أثناسيوس الرسولي فيقول أن "التجسد الإلهي أظهر قيمة الجسد { الكلمة صار جسدًا} (يو 1: 14). التجسد الإلهي رفع الجسد إلى المشاركة في الحياة الإلهية ورفع من قيمة الإنسان كوضع أهتمام الله لخلاص الإنسان جسد ونفس وروح. ويقول القديس مقاريوس الكبير فيقول " إن الجسد أداة للعمل الروحي، إذ يشارك بالصلاة والسجود والصوم." وحذر القديس يوحنا ذهبي الفم من احتقار الجسد، مؤكدًا أن المشكلة ليست في الجسد بل في إساءة استخدام الحرية، فالخطيئة ليست من طبيعة الجسد بل من سوء الإرادة.
+ أبعاد عمل الجسد في الحياة الروحية..
للجسد الإنساني كرامته أذ يشارك في الأسرار المقدسة من معمودية، وميرون وأفخارستيا وكل الخدمات التي نقوم بها يشترك فيها الجسد والنفس والروح فالجسد أداة للخدمة وللتسبيح {كل نسمة فلتسبح الرب} (مز 150: 6). والجهاد الروحي يشمل ضبط الجسد بالصوم والسهر كوسيلة لتقديسه.
ثانيًا: الجسد في علم النفس
أما الجسد بالنسبة لعلماء النفس فيبرز دوره لانه يعطى الهوية النفسية للفرد. ويرى علماء النفس مثل سيغموند فرويد أن الجسد هو نقطة البداية لتكوين صورة الذات والهوية الشخصية. وصورة الجسد "Body Image" بالنسبة لنا عامل أساسي في الصحة النفسية، حيث يؤثر على تقدير الذات والثقة بالنفس. كما أن الجسد وسيلة للتعبير عن النفس ويعكس الانفعالات بتعبيرات الوجه، حركات اليدين. وحتى طريقة المشى وفي المدرسة الإنسانية عند كارل روجرز وأبراهام ماسلو فان الجسد ليس مجرد أداة، بل تعبير عن الكينونة الإنسانية الكاملة. ويؤكد علم النفس الحديث على العلاقة بين الصحة النفسية والصحة الجسدية فالضغوط النفسية تظهر في الجسد كأمراض قرحة المعدة، ارتفاع الضغط، ضعف المناعة.
ثالثًا: الجسد في علم الاجتماع
اما في علم الأجتماع فالإنسان كائن أجتماعي والجسد يبرز كيان الفرد وهويته ويرى علماء الاجتماع مثل إميل دوركايم، وبيير بورديو أن الجسد ليس ملكًا فرديًا فقط، بل له أبعاد اجتماعية وثقافية. ويفرض المجتمع أنماط معينة على الجسد في الملبس والسلوكيات والعادات وتشترك العادات الاجتماعية والدينية في دور الجسد بشكل مباشر كالوقوف، الركوع، الصيام، الأعياد وخلافه. فالجسد وسيلة للتعبير عن الانتماء والهوية الجمعية.
+ في الفكر الإنساني فان الكرامة الإنسانية غير قابلة للانفصال فاحترام الجسد من حقوق الإنسان الأساسية مثل مقاومة العنف الجسدي ومكافحة الاستعباد. وأن كان الجسد يُعتبر مجالاً للصراع بين الحرية الفردية والضوابط الاجتماعية كما في قضايا الإدمان، العنف، الاستغلال الجنسي وعلينا الاهتمام باجسادنا وصحتها فالعقل السليم في الجسد السليم.
+ الجسد الإنساني أذاً في الفكر الآبائي والنفسي والاجتماعي ليس مجرد كيان مادي، بل هو حامل للكرامة، أداة للعمل، ومجال للشركة مع الله والآخرين. فالآباء شددوا على قدسية الجسد، لأنه مدعو للخلود، والمسيح نفسه قد تجسد ليقدس طبيعتنا الجسدية. أما علم النفس، فأبرز دور الجسد في الهوية والتوازن النفسي، وعلم الاجتماع كشف عن أبعاده الجماعية والثقافية. وعليه، فإن تكامل هذه الرؤى يقدم للإنسان نظرة متكاملة إلى جسده: كهيكل للروح، وأداة للنمو النفسي، ووسيلة للتواصل الاجتماعي، مما يعزز دعوة الكنيسة والعلم معًا إلى احترام الجسد وكرامته.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
مراجع
* الكتاب المقدس
- القديس أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.
- القديس إيريناوس، ضد الهرطقات.
- يوحنا ذهبي الفم، عظات على الرسالة إلى أهل كورنثوس.
- McGuire, M. B. (2008). Lived Religion: Faith and Practice in Everyday Life. Oxford University Press.
- Gallagher, S. (2005). How the Body Shapes the Mind. Oxford University Press.
- Freud, S. (1923). The Ego and the Id.
- Bourdieu, P. (1977). Outline of a Theory of Practice.

