تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

اولاً- رحلة الي الأعماق...

النفس البشرية سرّ من أسرار الخليقة، عميقة بقدر لا يُقاس، لأنها خُلقت على صورة الله ومثاله (تك 1: 26). وقد أكد الآباء أن معرفة النفس هي الطريق إلى معرفة الله، بينما شدّد علماء النفس على أن الغوص في أعماق النفس ضرورة لفهم السلوك والتحرر من الصراعات. ومن هنا تلتقي الرؤية الروحية مع التحليل النفسي في دعوتها للإنسان إلى رحلة داخلية، للدخول إلى اعماق النفس ويقول داج همرشلد، الأمين العام السابق للأمم المتحدة "إن اطول الرحلات هى الارتحال إلي داخل النفس".  وهذه الرحلة من أهم الرحلات علي الأطلاق، لانه بداخل النفس سنعثر علي ملكوت الله، واعظم موارد الإنسان والد اعدائه ايضاً. الإنسان عالم مصغر وكلما دخلنا الي أعماقنا أكتشفنا قيمتها ومشاكلها وكيفية حلها والتعلم منها والنمو من خلالها ويقول القديس مقاريوس الكبير "كما يُقشر الانسان بصلة فيزيل ورقة بعد ورقة وطبقة بعد أخرى الي ان يصل الي عمق الثمرة التي تبزغ منها نبتة تنمو متجهة نحو النور فانه وبنفس الطريقة ولو أن ذلك يثير عدم ارتياحنا يجب علينا ان نزيل طبقة تلو اخرى من عدم الرضا وعدم الصبر، والتهور والغضب والحسد، والكرب والقلق والكراهية، وتثبيط الهمة والاكتئاب قبل ان نصل إلي اعمق غرف قلبنا وعندما نصل لتلك الغرفة بالاضافة لهذا كله سنجد حية زاحفة قابعة في أمان اسمها محبة الذات والشفقة عليها، واذا نجحت في أقتناص هذه الحية، فانك تفتخر بذاتك انك صرت نقي أمام الله، لكن احذر مجدداً لانها لا تموت بل تبطئ عملها لذلك انحني بتواضع كخاطئ محتاج وتضرع الي الرب من اجل الخلاص من كل ما يربض بداخلك". علينا ان نعرف انفسنا ونتخلص من أنانيتنا ونصادق انفسنا ونربيها ونخلصها في ضوء روح الله القدوس وكلمة الله المقدسة لهذا قال :{  اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.} (يو ١٢: ٢٤، ٢٥)

+ النفس البشرية بين الإيمان والعلم ...

معرفة النفس هي طريقنا إلى معرفة الله ويقول القديس أغسطينوس يقول: «دخلتُ إلى داخلي، فرأيتُ بنورك، أيها الرب، أن ما فوق نفسي هو أنت» أن الغوص في أعماق النفس من المفترض أن يقود إلى لقاء الله. والقديس الأنبا أنطونيوس الكبير علّم تلاميذه قائلاً: «اعرف نفسك، واعرف ضعفك، فتجد قوة الله معك». اما القديس غريغوريوس النزينزي فقد شبّه النفس بالمرآة، فإذا تنقّت بالتوبة انعكس فيها نور الله.

 وعند الآباء فحص النفس ليس غاية عقلية، بل مسيرة خلاصية تهدف إلى التوبة والاتحاد بالله. وعلينا ان نقيّم انفسنا في ضوء قيمتنا لدى الله الذي بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية لذلك يقول القديس اغسطينوس " لا تياسوا من أنفسكم، انتم اناس خلقتم علي صورة الله، وذاك الذي خلقكم صار هو نفسه إنسان، لقد سفك دم الأبن الوحيد من أجلكم، لو تتفكّر في ضعفك فقط، فأنت تجعل نفسك رخيصة. قيموا  انفسكم بالثمن الذي دفع لأجلكم".

+ اما من المنظور النفسي فعلم النفس يركّز على أعماق الإنسان المخفية فيرى فرويد أن اللاوعي هو مخزن الرغبات المكبوتة، وأن التحليل النفسي يحرّر الإنسان من قلقه الداخلي. أما كارل يونغ فقدّم مفهوم "الظل" الذي يمثل الجوانب المخفية والمرفوضة في النفس، وأكد أن اكتمال الشخصية يتم عبر مواجهة هذا الظل ودمجه مع الوعي. كما اعتبر أن النفس تحمل "الذات العليا" التي تمثل اكتمال الكيان الإنساني. ويربط فيكتور فرانكل بين الصحة النفسية والبحث عن معنى الحياة، مؤكداً أن أعمق ما تحتاجه النفس هو إدراك هدف وجودها.

ثالثاً - التلاقي بين الروحي والنفسي

يرى الآباء أن  النفس البشرية هي ميدان صراع بين النعمة والخطيئة، النعمة اعطتنا البنوة والإيمان والملكوت وتعيننا لنكتشف أنفسنا ونجاهد وننتصر ضد شهوات الجسد ومحبة العالم وشهوة العيون وتعظم المعيشة. اما علماء النفس فيروا أن النفس هي ميدان صراع بين الدوافع الواعية واللاواعية. وكلاهما يرى أن معرفة النفس شرط للتحرر من ربط العبودية فعند الآباء التحرر من الخطيئة، وعند علماء النفس التحرر من القلق والاضطراب. والأدب الروحي والنفسي يساعد على وصف وأكتشاف هذه الأعماق فيشبّه الآباء النفس بالبحر، سطحه مضطرب، أما عمقه فهادئ حيث يسكن الله، كما ان النفس مرآه تتجلي فيها صورة الله وكلما صُقلت بالتوبة تتجلي فيها صورة الله. ويميز الكتاب بين أعمال الجسد والإنسان العتيق . وبين الإنسان الجديد المولود من الروح والذى يثبت في المسيح وينقاد لعمل الروح القدس داخله والذي يقوم بتنقية النفس ويجعلها تثمر بالجهاد وعمل النعمة { وَإِنَّمَا أَقُولُ: اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ، الَّتِي هِيَ: زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضًا: إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ. وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ  وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ.} (غل ٥: ١٦، ١٩-٢٣). ويشبّه يونغ النفس بمدينة فيها شوارع ظاهرة وأزقة خفية تمثل اللاوعي. وعلينا ان ندخل لأعماق النفس ونحن منقادين بالروح القدس لكي يرشدنا ويطهرنا وينقينا ويكشف لنا اعماقنا ويحررنا من كل قيود الخطية ويعمل فينا لنشترك معه في كل عمل صالح. فالارتحال لأعماق النفس هو مسيرة مزدوجة روحية ونفسية كطريق للتوبة والقداسة ومعرفة الله، والتحرر من الصراعات والبحث عن المعنى. وعندما يجتمع البُعدان، يكتشف الإنسان أن العمق الحقيقي لا يُدرك إلا إذا اجتمع النور الإلهي مع الوعي النفسي، ليصير الإنسان أكثر حرية ونضج وقرب من الله. فتذكر من أنت لاسيما عندما تشعر بالوحدة او الخوف او القلق او الضعف او حتى اليأس من الخطية. تذكر أنك ابناً لله ومدعو للقيامة مع المسيح القائل { أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا.}(يو ١١: ٢٥). لقد اعطاك الله ميزة الحديث والتحاور معه في اي وقت وهو قادر ان يفعل معنا اكثر مما نطلب أو نفتكر {وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا}(أف ٣: ٢٠)، أمين.

 ✍ صفحة مقالات أبونا إفرايم الأنبا بيشوي