أولاً: معنى معرفة النفس..
معرفة النفس ليست مجرد وعي بانفعالاتها وميولها او دوافعها بل تحليل للشخصية، وكرحلة روحية وعقلية تهدف إلى اكتشاف أعماق الإنسان الداخلية وإمكاناته، وطاقاته الكامنة. فمعرفة من أنا؟ من أين أتيت؟. والي أين أذهب؟ وما هو هدفي في الحياة؟. هذه المعرفة تساعد الإنسان أن يعيش حياة متكاملة منفتحة على الله والآخرين. إن للإنسان مفاهيم عديدة فهو في في بلده مواطن أو رقم قومى او حتى دافع ضرائب وفي دولة اخرى غريب وأجنبي او سائح وللطبيب مريض، وللفيلسوف موضوع دراسة ولمكتب البريد عنوان وللسياسي ناخب وللنادى عضو ولله خليقته الذي منحها قدرة التفكير والمعرفة وحمل الأمانة وهو حر الارداة والأختيار وللمؤمن المسيحي أبن لله ومحبوب ووارث ومختار قبل تأسيس العالم والله يعرفه ويحبه { اُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ! مِنْ أَجْلِ هذَا لاَ يَعْرِفُنَا الْعَالَمُ، لأَنَّهُ لاَ يَعْرِفُهُ. أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ.} (١ يوحنا ٣: ١، ٢). ان النفس هي صورة الله فينا، ومعرفتنا لها كوسيلة وغاية للاتحاد بالله. قال القديس أغسطينوس: "عرفت نفسي فوجدت الله، وعرفت الله فاكتشفت ذاتي.". اننا من خلال السيد المسيح أصبحنا ننتمي الي الله كابناء وقد اخذنا هويتنا الحقيقية منه ونجد انساننا الحق وتقديرنا لأنفسنا وهدف حياتنا وابديتنا في إقامة علاقة إيمانية حقة فيه ومن خلال كنيسته المقدسة وعندما نخدمة كنور وسفراء له.
ثانياً: الرؤية النفسية المسيحية...
الإنسان كائن مركب من جسد ونفس وروح كعناصر متداخلة يصعب فصلها ويحتل العقل والشعور واللاشعور مكانه متداخلة فيه ويسعى الإنسان من خلال جهده لتحسين ظروفه وتحقيق رؤيته الافضل لذاته. وقد حاول علماء النفس المؤمنون بالمسيح التوفيق بين المنهج العلمي للتحليل النفسي وبين الإيمان المسيحي العميق. ومن أبرز النقاط التي ركزوا عليها:
- كارل يونغ (Carl Jung)
لم يكن كارل لاهوتيًا بالمعنى الكنسي، إلا أن يونغ كان متأثراً بالروحانية المسيحية. يرى أن النفس البشرية تحمل "لاوعيًا جمعيًا" مليئًا بالرموز الدينية. واعتبر أن معرفة النفس لا تكتمل إلا من خلال الانفتاح على البعد الروحي. وأكد أن الإنسان إذا تجاهل الله فانه يعيش ممزقاً داخلياً.
- فيكتور فرانكل (Viktor Frankl)
مؤسس "العلاج بالمعنى" (Logotherapy). كان مؤمناً بضرورة البحث عن المعنى في الحياة حتى وسط الألم.
ويرى أن معرفة النفس تتحقق عندما يكتشف الإنسان رسالته التي أعطاها له الله. كما يؤكد أن الاكتفاء الذاتي النفسي غير ممكن دون الله، لأن الله هو مصدر المعنى.
- بول تورنييه (Paul Tournier)
طبيب نفسي مسيحي سويسري، كتب عن "الشخص الكامل". ويوضح تورنييه أن الإنسان لا يُشفى نفسياً إلا عندما يُفتح قلبه لله. ويرى أن معرفة النفس لا تنفصل عن معرفة الله، لأن الله هو الذي يكشف أعماقنا.
- جوردن ألبورت (Gordon Allport)
عالم نفس أمريكي مسيحي. يركز على "النضج الديني" كعامل أساسي في تكوين الشخصية السوية. ويرى أن الإيمان الحي بالمسيح يعطي اتزاناً داخلياً ويحرر الإنسان من القلق.
ثالثاً: خطوات عملية لمعرفة النفس في ضوء الفكر النفسي المسيحي
١ - الفحص الذاتي اليومي: أنه حساب النفس الذي يدعونا اليه التقليد المسيحي في صلاة نهاية اليوم، حيث يراجع الإنسان أفعاله ودوافعه ويطلب مغفرة خطاياه ويستمد النعمة والقوة من الله ليقوم بالاعمال الموكلة اليه.
٢- الانفتاح على الله بالصلاة: الصلاة تكشف أعماق النفس وتعطيها نور الحق وتفتح لها طاقات الإيمان وبها نتصل بمصدر النعمة وننال بركة وننتصر علي أعدائنا الروحيين ونبتعد عن التشتت وطياشة الفكر ونمسك بالحياة الأبدية التي دعانا اليها الله.
٣ - العلاج بالأعتراف : مشاركة الآخر بالاعتراف، الإرشاد الروحي، العلاج النفسي المسيحي يساعد على كشف الجروح الداخلية ومعرفة ضعفات النفس وكيفيه علاجها ومعرفة أمكاناتنا الروحية والنفسية ونمونا الروحى في المعرفة والنعمة.
٤- البحث عن المعنى: الإنسان المسيحي لا يكتفي بأن يعرف ذاته فقط، بل يسعى أن يحقق قصد الله من حياته. فلكل منا قيمة سامية في عين الله ومخلوق لأعمال صالحة ورسالة وهدف من حياته { لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا.} (أف ٢: ١٠)
٥- التوازن بين العلم والإيمان: المعرفة العلمية تقدم أدوات لفهم السلوك، لكن البعد الإيماني يكشف الهدف الأسمى ألا وهو معرفة الله والثبات فيه والأتحاد به.
إن معرفة النفس عند علماء النفس المؤمنين بالمسيح ليست تحليلاً بارداً للشخصية، ولا غوصاً في أعماق اللاوعي فقط، بل هي رحلة روحية نحو الله. فكلما تعمق الإنسان في معرفة ذاته، اكتشف ضعفه واحتياجه، وفي الوقت نفسه رأى صورة الله فيه ودعوة الله له إلى النمو في المحبة والحرية. وكما يقول بول تورنييه: "إن أعظم اكتشاف للنفس البشرية ليس في أن تعرف أعماقها فقط، بل أن تدرك أنها معروفة ومحبوبة من الله.". نحن أبناء الله ومخلوقين لأعمال صالحة لنسلك فيها ومدعوين للملكوت فالسيد المسيح الذي بذل ذاته حباً بنا لم يدعونا عبيد بل ابناء وأن كنا ابناء فاننا ورثة الملكوت رغم ضيقات الزمان الحاضر التي لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا { إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا الآبُ». اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا، وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ.} (رو ٨: ١٥-١٧). وها هو مسيحنا القدوس يطمئننا ويبدد خوفنا ويهبنا سلامه قائلاً : {لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ. }(لو ١٢: ٣٢)، أمين.

