حياة الإيمان العامل بالمحبة
الإيمان لدينا في الكنيسة القبطة الارثوذكسية يقوم علي أساس كتابي وآبائي، هو ليس مجرد إقرار عقلي أو اعتراف نظري بالله فقط بل حياة تُعاش عملياً في محبة الله والقريب. ويصفه الكتاب { الإيمان العامل بالمحبة}(غل 5: 6). والقديس يعقوب الرسول يوضح أن الإيمان المجرد من الأعمال ميت { الإيمان أيضاً إن لم يكن له أعمال ميت في ذاته} (يع 2: 17). فالإيمان خبرة حيّة وعلاقة شخصية وبنوة لله الآب في أبنه يسوع المسيح ربنا بالروح القدس، هذا الإيمان يغيّر الإنسان ويجدّد حياته.
اولاً: الإيمان في الكتاب المقدس
+ يقدّم الكتاب المقدس تعريفًا واضح في رسالة العبرانيين { إلإِيمَانُ هُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى} (عب 11: 1). فالإيمان هو ثقة راسخة في الله ووعوده ويقين داخلي بما لا يُدرك بالحواس المجردة.
الإيمان فعل حيّ وليس مجرد معرفة نظرية، بل هو استجابة طاعة وثقة كما اطاع إبراهيم الله عندما دعاه { بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثًا، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي} (عب ١١: ٨). وبالايمان قدم ابراهيم ابنه ذبيحة لله لانه آمن ان الله قادر أن يقيمه من الأموات.(عب ١١: ١٧-١٩)
+ والعهد الجديد يربط بين التوبة والإيمان كضرورة للخلاص { جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللهِ وَيَقُولُ: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ.} (مر ١: ١٤، ١٥). كما قال لنا { مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ.} (مر ١٦: ١٦). الإيمان نعمة وهبه من الله لخلاصنا { لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ، هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ} (أف 2: 8). علي أن الإيمان يجب أن يكون عامل بالمحبة { فَإِنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ.} (غل 5: 6).
ثانياً: الإيمان في فكر آباء الكنيسة القبطية
• يؤكد القديس أثناسيوس الرسولي أن الإيمان هو اتحاد حيّ بالمسيح الكلمة المتجسد، به ننال البنوة لله: "الإيمان هو أن نقبل المسيح في قلوبنا بالإخلاص، فننال الحياة الأبدية".
• يؤكد القديس كيرلس الكبير عمود الدين أن الإيمان ليس مجرد تصديق، بل هو دخول في سرّ المسيح
"الإيمان يُعطى لنا عربونًا للروح، ويقودنا إلى معرفة أسرار اللاهوت".
• والقديس الأنبا أنطونيوس في تعليمه للرهبان وضع الإيمان كاساس للجهاد الروحي قائلاً:" الإيمان المستقيم يحفظ النفس والطاعة تحفظ القلب بلا خوف".
• والقديس يوحنا ذهبي الفم يربط بين الإيمان والسلوك قائلاً: "الإيمان بدون أعمال يشبه الجسد الميت بلا روح".
+ ملامح الإيمان في الروحانية القبطية
• إيمان تسليمي: يعتمد على التسليم الكامل لإرادة الله، كما نصلي في الصلاة الربانية"لتكن مشيئتك". وفيه نحفاظ علي استقامة الإيمان والعقيدة كما سلمها لنا الرسل والاباء القديسين { وَأَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ فَابْنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمُ الأَقْدَسِ، مُصَلِّينَ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ.}(يه ١: ٢٠)
• إيمان مُجاهد: يقترن بالجهاد ضد الخطية، فالإيمان الحي يتجسد في التوبة الدائمة والمثمرة والشاملة.
• إيمان كنسي: يُعاش داخل جسد المسيح أي الكنيسة، من خلال الأسرار من معمودية ومسحة مقدسة و الإفخارستيا التوبة والاعتراف.. الخ..
• إيمان حيّ ومُثمر: يظهر في الأعمال الصالحة والرحمة وخدمة الآخرين.
الكنيسة لا تفصل بين العقيدة والحياة، بل ترى أن الإيمان الحقيقي يظهر في السلوك المسيحي، ويثبت في القلب بالنعمة والروح القدس. الإيمان المسيحي ليس انعزالاً عن الواقع، ولا مجرد اعتقاد داخلي، بل هو قوة محركة للإنسان نحو المحبة، الخدمة، العطاء، والشهادة الحية للمسيح.
ثالثاً: أمثلة من حياة رجال الإيمان
الكتاب المقدس وسير القديسين يقدمون نماذج حيّة للإيمان العامل بالمحبة:
• إبراهيم أبو الآباء: أطاع الله بالإيمان وترك وطنه، وأظهر محبته لله حتى في امتحان تقديم ابنه إسحق (تك 22).
• موسى النبي: بالإيمان قاد الشعب من أرض العبودية، وبالمحبة احتمل ضعفهم وصلى لأجلهم (خر 32: 32).
• القديس بولس الرسول: عاش الإيمان العامل بالمحبة في كرازته، متحملاً الآلام والسجون من أجل خلاص الآخرين (2 كو11: 23-28).
• وتذخر الكنيسة القبطية بشهدائها وقديسيها الذين عاشوا الإيمان في محبة لله وخدمة وبذل فأثمرت حياتهم ونالوا آكاليل المجد. وفي العصر الحديث قديس مثل البابا كيرلس السادس والبابا شنودة الثالث وابونا بيشوى كامل وغيرهم الذين كان إيمانهم العملي سبب تعزية وإرشاد لشعبهم في أوقات الضيق.
رابعاً: تأثير الإيمان على النفس البشرية
من منظور علم النفس المسبحي
• الإيمان يولّد الأمان الداخلي ويبدّد القلق والخوف { فِي يَوْمِ خَوْفِي، أَنَا عَلَيْكَ أَتَّكِلُ. اَللهُ أَفْتَخِرُ بِكَلاَمِهِ. عَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُهُ بِي الْبَشَرُ؟ (مز ٥٦: ٣، ٤).
• الإيمان يقود إلى الرجاء حتى في أقسى الظروف { فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا قَدْ صَارَ لَنَا الدُّخُولُ بِالإِيمَانِ، إِلَى هذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ، وَنَفْتَخِرُ عَلَى رَجَاءِ مَجْدِ اللهِ. وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي الضِّيقَاتِ، عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً، ٥وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا. (رو ٥: ١-٥)
• الإيمان يدفع الإنسان إلى المحبة والبذل، فيشعر بالمعنى والغاية في حياته.
• الايمان يعزز المرونة النفسية لمواجهة الأزمات والإحباطات، إذ يعطي قوة فوق طبيعية لنقول مع القديس بولس الرسول { أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي. }(في ٤: ١٣) وقد أكد علماء النفس الإيجابي أن الإيمان والروحانية مرتبطان بالصحة النفسية والرضا عن الحياة.
خامساً: ثمار الإيمان العامل بالمحبة
الإيمان الحقيقي يثمر في المؤمنين
+ السلام الداخلي.. اذ نتبرر بالإيمان يكون لنا سلام مع الله" (رومية 5: 1). ويثمر محبة عملية تتمثل في خدمة الفقراء، المحتاجين، والمظلومين (متى 25: 35-36).
+ الإيمان يهب الرجاء والصبر والثبات وسط التجارب (يعقوب 1: 3). ويثمر قداسة ونمو في الطهارة والفضيلة.
+ الايمان يجعلنا نشهد للمسيح بالكلمة والحياة والسلوك.
سادساً: كيف يقوى إيماننا؟
• التمسك بالكتاب المقدس: "الإيمان بالخبر، والخبر بكلمة الله" (رو 10: 17).
• الأسرار الكنسية: خصوصاً التناول من جسد ودم المسيح الذي يثبتنا في الإيمان.
• الصلاة الدائمة: تعطي قوة للاتحاد بالله.
• شركة القديسين: قراءة سيرهم والاقتداء بإيمانهم.
• المحبة العملية: كلما مارسنا المحبة، نما الإيمان في داخلنا.
• الخبرة الروحية: مواجهة التجارب بالإيمان تزيد ثباتنا (1 بط 1: 7).
إن الإيمان ليس عقيدة جامدة بل حياة فعالة، تنبض بالمحبة وتثمر سلام ورجاء وقداسة، انه قوة تغيير الإنسان من الداخل وتجلعه ملحاً في الأرض ونورا للعالم
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع المقترحة
• الكتاب المقدس (العهد القديم والجديد).
• أقوال الآباء:
• أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.
• كيرلس الكبير، تفسير إنجيل يوحنا.
• أقوال أنبا أنطونيوس، بستان الرهبان.
• القمص تادرس يعقوب ملطي، تفسير الكتاب المقدس
• د. ماهر فايز، الإيمان العامل بالمحبة.
• الأنبا غريغوريوس، علم اللاهوت الروحي.
• دراسات في علم النفس الديني: William James, The Varieties of Religious Experience