تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 
  • "كلك بركة يا (مرزوق)..سنتعبك معانا "

نطق أبى (أنُسيمُس) بهذه التحية لعم (مرزوق) أحد سائقي سيارات الدير، الذى أعتبر عدد سنوات خدمته للدير أضعاف سنواتى الخمس في الرهبنة ، فلذا دائماً ما أمذح معه قائلاً :

  • عم (مرزوق) القمص، لما يتميز به من طيبة واحترام وحكمة وإنتماء للدير، مضافاً إليه عدد سنوات خدمته الأمينة الطويلة داخله.

فرد عم (مرزوق) قائلاً :

  • نأخذ بركة يا أبونا (أنُسيمُس).. بيننا عِشرة طويلة يا أبويا القمص .

تهللت أساريري وأنا أقول بدلاً من أبونا (أنُسيمُس):

  • أنت مثال للمحبة والإلتزام يا عم (مرزوق).

فرد عم (مرزوق) قائلاً :

  • وأنت مثال للتفانى في العمل بمحبة يا أبونا (كيرلس) ، طوال تواجدى هنا في الدير وكلما أردت شيئاً من العيادة ، لم تُقصر معى مطلقاً ، الليل قبل النهار .. الرب يُبارك في حياتك .

+++

تحركنا أنا وأبي (أنُسيمُس) في سيارة يقودها عم (مرزوق) في تمام الساعة الثانية مساءاً ، متوجهين إلى مغارة أبونا (بيشوى) - والد أبي -  والذى تبعد مغارته من الدير حوالى عشرين كيلو متراً ، ما يستغرق في هذا الطريق الوعر أكثر من ساعة.

وقبل خروجى من الدير ذهبت للاستئذان من شيخنا الوقور (سيدنا) رئيس الدير  ، الذى فرح كثيراً لهذه المقابلة ، ووافق على الفور بل وحملنى أمانة ، أن أقدم له خالص السلامات والتحية ، لأننى قد علمت أن سيدنا و أبونا (بيشوى) ترهبا معاً في نفس الدير ، وبنفس يد رئيس الدير أنذاك . بفارق بعض من السنوات القليلة التي يكبرها أبونا (بيشوى)  عن (سيدنا) رئيس الدير .

وكان شغف (سيدنا) رئيس الدير بشخصية أبونا (بيشوى) ، أحد أهم العوامل التي أثرت فيّ وجعلت الاشتياق يذداد داخلى لرؤيته .

وفى أثناء الطريق بدأ يحكى لى أبونا (أنُسيمُس) عن ذكريات معرفته بأبونا (بيشوى)  فقال :

  • وهل تعلم أيضاً يا بني أن أبونا (بيشوى) عمره الآن تقريباً أربعة وتسعين عاماً ....

أتسعت عيني من الدهشة ليس لأننى أسمع سنين عمره هذه ، وإنما باقى التفاصيل التي سردها لى أبونا (أنُسيمُس) ، والتي لا أقوى شخصياً  - على الرغم من صغر سنى -  على أحتمالها ... فهو  يجلس في مغارة في الجبل بدون مياه أو كهرباء ، ولا يخدمه أحد لا أب راهب ولا أخ ، وإنما يقوم بكل احتياجاته الشخصية بنفسه حتى هذه اللحظة ...

فسألت أبونا (أنُسيمُس) قائلاً :

  • ألـــــم تكفـــــــيه سنـــــــوات حيــــــاتـــــه هـــــذه في

التوحد داخل المغارة ؟؟؟ لماذا لا يأخذ قلاية بين الأباء ، مع كبر عمره واحتمالية أصابته بأى مكروه !!!

فرد أبونا (أنُسيمُس) قائلاً :

  • منذ رهبنة أبونا (بيشوى) إلي هذه اللحظة حياته في الرهبنة حياة مغائر فقط، أنه يحيا حياة المغارة منذ ما يقرب من أكثر من ستين عاماً ، وحياته في الرهبنة تقرب من سبعين عاماً ...

ثم بدأ يسرد تفاصيل أخرى كثيرة لى وأثناء سماعها بدأت أقول لنفسي باقتناع تام :

  • من أنا حتي أقابل هذه القامة الروحية العظيمة ؟ أنه يكبرني في العمر أكثر من ثلاثة أضعافه، ويكبرنى في خبرته في الرهبنة أكثر من عشر أضعاف .

ثم أستطرد أبونا (أنُسيمُس) بسرد تفاصيل أخرى عامة عن تحديد قرار الرهبنة وأن يعتزل الإنسان العالم ، و يحيا في الدير .....

... فكل هذه الذكريات جعلتنى بيني وبين نفسي أتذكر قصة خروجى من العالم ...

والتى لا أستطيع نسيانها ، مهما مرَّ الزمان ...

 

+++

منذ حوالى أكثر من خمسة عشر عاماً جاءتنى فكرة الرهبنة، والتي كانت تتردد على قلبى وذهنى منذ فترة أطول من ذلك ، ولكننى كنت أطرد هذا الفكر بعيداً و أقول لنفسي بلهجة كلها جدية :

  • أنت تسرح بخيالك بعيداً يا (.. فلان.. ) ، مالك ومال هذا الفكر أنت أضعف بكثير من أن تصل لشيء مثل هذا .

و استطرد في فكرى قائلاً :

  • هذا ليس صغر نفس ، و لا إتضاع وإنما هو واقع أعيشه.. من أنا الصغير حتى أخذ لقب ( أبونا ) ؟!!!
  • إن كنت لا أقوى على حماية نفسي من ضربات الشيطان ، وأقع في خطايا وسهوات وغيرها ...
  • أعرف قدر نفسك يا ( ..فلان ..) ..
  • وكما يقول بولس الرسول في رسالته لأهل رومية لا يرتئى فوق ماينبغى أن يرتئي ، بل يرتئي إلى التعقل .

وبهذه الكلمات و الحوار يكون الجواب في كل مرة على فكرى الحائر عن مدى إمكانية اختيار حياة الرهبنة ، وقد يكون السبب في أن فكرى أصبح أكثر واقعية أو تحليلاً بهذه الطريقة ، هو كثرة تواجدى داخل الخدمة ، وبالأخص خدمة الشباب والتي ما كانت دائماً تخاطب العقل والواقع بالأكثر.

ومن ناحية أخرى نجحت ذكريات أبونا (أنُسيمُس) التي رواها منذ قليل ، أن تذكرنى بموقف حدث معى والذى كان له عظيم الأثر في تشجيعى لإتخاذ هذه الحياة الملائكية....

أتذكر أن ذلك الموقف حدث بإحدى المحاضرات العملية داخل كلية الطب وبالتحديد في السنة الخامسة، في أحد (سكاشن) مادة جراحة المخ والأعصاب.

ففى وقتها كانت أحدى زميلات (السكشن) مسئولة عن تقديم حالة مرضية . وبكل صراحة كان من المعروف أن دكتور هذا (السكشن) والمشرف على هذه الحالة ، من الأطباء ذوى الأسلوب الجاف والصعب ، فكل من يُقدم أمامه أي حالة ، يتعرض للإحراج وبالأخص أن المناقشة كانت أمام أفراد (السكشن) بأكمله .

وفى هذا اليوم كنت جالساً في آخر صف من صفوف الطلاب الذين يقربون من الأربعين طالباً، ووجدنا الدكتور النائب يقوم بإدخال الحالة (المريض) قبل دخول الدكتور الاستشارى بحوالي خمس عشر دقيقة، ووضع الحالة بجوار السبورة ووجهها مقابل لنا ، كما لو تكن الحالة هي الدكتور .

 وكانت الحــــــالة عبـــــــارة عن شـــــاب صغير عمره قد يكون أو يذيد قليلاً عن خمس عشرة سنة، نحيل الوجه ، واسع العينين ،مستقيم الفم مدبب الذقن ، يمنحه نحوله مظهراً يفوق سنوات عمره ، جالساً على كرسي متحرك ، وعلى رأسه ضمادات كبيرة الحجم تدل على إنه قام بعمل عملية جراحية كبيرة في الجمجمة منذ أقل من أسبوع ، وعدم تحرك أطرافه لدقائق معدودة قد يدل على وجود شلل ثنائى أو رباعى....

ولكن مارأيته يتحرك فيه وبكل طلاقة، نظراته الزائغة والتي ترمق كل واحد منا في (السكشن) بشكل متتابع.

وبكل صراحة وواقعية تواجد أي حالة حجز في الأقسام المجانية داخل أي مستشفى جامعى، تدل على التدهور الصحى لهذه الحالة، بل أيضاً تدهورها المادى الذى لا يمنحها فرصة العلاج على النفقة الشخصية في أي مستشفى خاصة، أو في القسم الاقتصادى بالمستشفى الجامعى.

المهم أن الدكتور المشرف دخل (السكشن) وهو يضع سيجارته المعتاده في فمه ، وأبتدأ يدور بنظراته الحادة أرجاء الغرفة ، وهو يسمع ملخصاً سريعاً من الدكتور النائب عن الحالة المتواجدة داخل (السكشن)، الذى بدوره خرج وترك الدكتورة زميلتنا أمام مصيرها المحتوم في المناقشة التي نتوقع جميعنا أنها ستكون مناقشة حادة .

وما مرت دقائق معدودة إلا وبدأت زميلتنا تقرأ أمام الدكتور من بعض أوراق بصوت وأصابع مرتجفة، وعلمنــــــــا أن تشــــــــخيـص الحـالة هـــــــو  (Neurofibroma) وهى حالة نادرة لها أعراض كثيرة و خطيرة قد نجمل تفاصيلها في أن نقول أنها ورم عصبي قد يكون حميداً أو خبيثاً (بنسبة عشرون بالمائة) ، وشاء الله أن يحمل هذا الشاب الصليب كاملاً ، ويأخذ هذا المرض بأسوء أعراضه ،ويصبح لديه شللاً رباعياً وتبولاً لاإرادياً وضعف في العضلات ....و يأخذ أيضاً أقل نسبة نجاح في العملية بل وفى الحياة أيضاً .

بدأت المناقشة وفى أثناءها حدث المتوقع ، بأن الدكتور المشرف سأل زميلتنا سؤالاً صعباً، وبدأ يستهزأ بعدم قدرتها الحصول على التاريخ المرضى للحالة بصورة جيدة ، وبعدها وفى تفصيل جوهرى قال لها الدكتور وهو يتثائب ويفرك جفنيه المنتفخين بحدة ونبرة عالية:

  • كيف لم تسألى المريض عن هذا العرض ؟!!!
  • أسأليه الآن .....

ترقرقت عيناي زميلتنا وهى تحاول جاهدة إلا تتساقط دموعها أمام (السكشن) قائلة :

  • آسفة يا دكتور .. سأسأله الآن .

وبدأت زميلتنا تسأل المريض سؤالاً معيناً عن عرض شائع في هذه الحالة . والغريب أنها كررت السؤال أكثر من مرة ، وفى كل مرة لا يرد عليها المريض ، ولا يلتفت إليها أثناء حديثها ..

فثارت زميلتنا وقالت بغضب عارم  يعتريه الكسوف:

  • لماذا لا تجيب ؟!!! ألا يكفيك ما تقوم المستشفى به لك هنا من تحاليل وإشاعات و عماليات بالمجان ؟؟؟

وزادت أيضاً حدة الدكتور المشرف من عدم إجابة المريض على السؤال و إهماله لهما، فقام بخبط كتف المريض لينظر إليهما، حيث أنه لم يلتفت لهما أثناء طلبهما له بالتحدث، ومن مفاجأة الخبطة دار المريض برأسه وما أن رأى وجهيهما العارميّن بالغضب حتى تساقطت دموعه كينبوع ماء،ولم يستطع بسبب حالته و شلله الرباعى مسحها من وجنتيه ، حتى صاح الدكتور الاستشارى منادياً الدكتور النائب بكل عصبية قائلاً :

  • يتم كتابة خروج لهذا الحالة لعدم تعاونه في المحاضرة .فهو يسمعنا ولا يريد أن يجيب على الأسئلة الموجهه إليه.

فقال الدكتور النائب بسرعة :

  • كُلّى أسف يا دكتور ... لقد نسيت أن أخبر حضرتك إنه في آخر عملية له منذ أسبوع، تأثر العصب السمعى ولم يعد يسمع منذ تلك اللحظة.

فرد الدكتور الاستشاري بعصبية ،أثناء محاولات فاشلة من زميلتنا لتهدئة الشاب :

  • وكيف تضعوا للدرس حالة كهذه غير مناسبة و ......

لم يعد لديّ تركيز لبقية الحوار لأن هذا الخبر وقع علىّ كالصاعقة .....

 وأنتابني شعور عارم بالضيق ، وقلت في نفســي بــحـــزن وأن أرمـــق بنــظــــرات ثابتــــــــة وجــه هذا الشاب المسكين ودموعه تملأ وجهه:

  • لماذا ياربى ؟؟؟ أنا أملك الصحة والمال وهذا الشاب المسكين لا يملك .
  • لماذا ياربى ؟؟؟ أنا أملك حتى الحق في الحلم والطموح لمستقبل أفضل ، ولكن هذا المسكين يعلم جيداً إنه لا يملك أي شيء في أي شيء ، فهو فقير ، مشلول شللاً رباعياً ، مُهان ، ليس له حتى حق الحياة ... فأسابيع قليلة أو شهور أقل ، ونرى استقبال السماء له.

أكملت (السكشن) وأنا جالساً معهم ، ولكننى لست معهم ، أخذت قلمى و بدأت أسطر صفحات أنُاجى بها الله ، وبكل صراحة تمنيت من الله ألاّ يعطى هذا الشاب المسكين القدرة على الفهم أو التركيز لإدراك ما حوله ، ولكن للأسف الشىء الوحيد الذى مازال يعمل لديه هو إدراكه ...

نعم .... إدراكه بحاله الآليم...

وأحسست في هذا الوقت بالأكثر شعور سليمان الحكيم عندما قال: " الكل باطل وقبض الريح ،ولا منفعة تحت الشمس" ( جا 2 : 11) .. وأن الله يحثنى بالأكثر للخروج ورائه في البرية، وأن استثمر كل عطاياه لى لأجل مجد اسمه القدوس .

وأكتملت الرؤية لديّ بعد أيام ، عندما جاءنى صوت من الله ، واخترتنى العناية الإلهية لنوال نعمة الكهنوت في أحدى الإيبارشيات ...

 وكانت هذه الرسالة هي الأخرى من أقوى الردود على فكرى في عدم استحقاق إرتداء الأسكيم الصغير الذى للرهبنة، فشعرت كما لو أن الله يوجه بصرى بنعمة الكهنوت ويقول لى بحنيته المعروفة :

  • لا تخف من الزى الأسود لن يكون لك عثرة بل بركة .

 

+++

" حمداً لله على السلامة يا أبائي "

بتر عم (مرزوق) زكرياتى الصامتة بهذه الجملة ، التي بدأ قلبى ينبض بعدها سريعاً استعداداً لرؤية أبونا (بيشوى) ....

 فمثل هذا الكم من المعلومات والاحترام الذى أراه واسمعه من الكبير قبل الصغير عنه، يجعل قشعريرة ما تسرى في وجدانى بأكمله وتسيطر على أفكارى. 

وقطع أيضاً أبونا (أنُسيمُس) توترى وهو يقول:

  • الرب يُسلم خطواتك دائماً يا(مرزوق ).

 ثم ألتف ناحيتي قائلاً بنبرة تنم عن الأهمية:

  • كما قلت لك يا بنى ...
  • أبونا (بيشوى) رجل كبير في المقام والسن أيضاً ، فها هو يكاد يُنهى السنة الرابعة في العقد التاسع من عمره ، أستمع له وتكلم متى أذن لك فقط.

ثم استطرد في كلامه بنفس نبرة الأهمية قائلاً :

  • أنتظر هنا في السيارة حتى أقرع باب المغارة، وأستأذنه في حضورك إليه .......
  • صلى يا بنى كى يعطيك الرب نعمة في عينيه... ويوافق على مقابلتك...

فقط .... صلى ....

فجلست أراقب أبونا (أنُسيمُس) وهو يتحرك وقلبي يُناجى الله...

نحو المغارة  ....

نحو الهدف  ....

 

                   يتبع الأسبوع القادم الفصل الرابع

 

✍ صفحة مقالات أبونا ويصا الأنبا بيشوي