أبونا إفرايم الأنبا بيشوي
يوجد مدونة ونويد عمل صفحة مع المدونة
سلام النفس في عالم مضطرب
يعيش الإنسان المعاصر في عالم متسارع مضطرب، نتعرض فيه للعديد من الضغوط الاقتصادية والنفسية والاجتماعية والسياسية، مما يذيد الصراعات الداخلية الناتجة عن الخوف، القلق، والشعور بعدم الأمان. وفي وسط هذه العواصف تتذايد الحاجة إلى "سلام النفس"، ذلك السلام الداخلي العميق لا يعتمد في الحقيقة على الظروف الخارجية، بل ينبع من علاقة روحية حية بالله، ويتكامل مع الصحة النفسية ويطرح الكتاب المقدس، وفكر الآباء، وكذلك علم النفس المسيحي، رؤية متكاملة لتحقيق هذا السلام كطريق للنضج الروحي والإنساني.
أولاً: سلام النفس في الكتاب وفكر الآباء
+ الله هو مصدر السلام الحقيقي ومنه ناخذ سلامنا لنعيش في هدوء وتعزية وسط مختلف الظروف، يقول الرب يسوع: { سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ.} (يو١٤: ٢٧). هنا يوضح المسيح أن سلامه ليس مجرّد هدوء ظاهري، بل عطية إلهية قادرة أن تملأ القلب وسط الضيق: { وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.} (في ٤: ٧). أي أن سلام الله يتجاوز إدراك الإنسان، لأنه مرتبط بحضور الله في الداخل وليس فقط بغياب المشاكل.
+ إن سلام النفس هو ثمرة من ثمار الروح القدس
السلام يُعد إحدى ثمار الروح { وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ.} (غل ٥: ٢٢، ٢٣ ). فالإنسان لا يستطيع أن يصنعه بنفسه، لكنه يقبله كعمل إلهي في داخله حين يسلك في الإيمان والمحبة. حتى في العهد القديم نجد داود يقول: { بالسلام أضطجع بل أيضاً أنام، لأنك أنت يا رب منفرداً في طمأنينة تسكنني} (مز 4: 8). هذا يوضح أن السلام ليس انعدام خطر خارجي، بل ثقة في الله الذي يحفظ ويريح كل متعب.
+ سلام النفس في فكر الآباء
+ يعرّف القديس أغسطينوس السلام بأنه "سكون النظام" أي أن النفس تدخل في انسجام داخلي حين تتوجّه بكليتها نحو الله، مصدر الطمأنينة. أما القديس أثناسيوس الرسولي فيربط بين الاتحاد بالمسيح والسلام قائلاً: "من يلتصق بالكلمة الإلهي، لا تزعزعه اضطرابات العالم، لأنه يتقوى بالحق غير المتغير."
ويشير القديس يوحنا ذهبي الفم إلى أن السلام ليس في الغنى أو السلطة بل في الضمير المستقيم: "لا شيء يقدر أن يزعج النفس الطاهرة، حتى لو تلاطمت عليها أمواج العالم." ويعلّمنا القديس الأنبا أنطونيوس الكبير أن السلام الداخلي ثمرة الجهاد الروحي ونعمة الله قائلاً: "الإنسان إذا حفظ قلبه من الأفكار المضطربة، وجد فيه الملكوت."
ثانياً: سلام النفس في علم النفس
+ يفسّر علماء النفس الرؤية النفسية للسلام الداخلي بأنه حالة من التوازن النفسي-العاطفي تنشأ من التكيّف الإيجابي مع الضغوط. في نظرية فيكتور فرانكل (Logotherapy)، السلام يأتي من إيجاد معنى للحياة حتى وسط الألم. ويشير علم النفس الإيجابي إلى أن الامتنان، الغفران، والتأمل، من أهم الممارسات التي تعزز سلام النفس. وهي متوافقة مع دعوة الكتاب المقدس: «اشكروا في كل شيء» (1 تس 5: 18).
+ إن الاضطرابات النفسية كالقلق والأكتئاب تهدد سلامنا النفسي وهنا يتقاطع العلاج النفسي مع العلاج الروحي، حيث يساعد الإيمان والتسليم لله على تقليل القلق المرضي.
ثالثا : وسائل عملية لتحقيق سلام النفس
+ الصلاة والتأمل .. الصلاة العميقة والهدوء الروحي يفتحان القلب لحضور الله. يجب أن نخصص وقت يومي لصلاة المزامير والصلاة يسوع الدائمة.
+ القراءة الروحية.. قراءة الكتاب المقدس وسير القديسين تغذي النفس بالرجاء وتعطى سلام للنفس.
+ المحاسبة اليومية تجعل المؤمن لا يتمادى في البعد عن الله ويتوب ويسترجع سلامه المفقود ويتقدم وينمو روحياً. لهذا يوصي الآباء بمراجعة النفس يومياً لتصحيح المسار، مما يمنع تراكم القلق والشعور بالذنب.
+ المساندة المجتمعية .. يبرز علم النفس أهمية العلاقات الداعمة. كما يؤكد أباء الكنيسة اهمية الشركة الأخوية كضمانة للسلام: { احملوا بعضكم أثقال بعض} (غل 6: 2).
+ ممارسات علاجية حديثة.. مثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT) لمواجهة الأفكار السلبية مع الإيمان المسيحي الذي يدعو إلى «تجديد الذهن» (رو 12: 2).
+ سلام النفس ليس رفاهية أو حالة شعورية عابرة، بل هو عطية إلهية وثمار جهاد روحي ونفسي متكامل. ويقدم الكتاب المقدس أساس هذا السلام في شخص المسيح، ويعمّقه الآباء في خبراتهم النسكية، ويدعمه علم النفس بوسائل عملية. وفي عالم يزداد اضطراباً، يبقى المؤمن مدعوّاً لأن يكون شاهداً لهذا السلام، كما قال الرب: { طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون}(مت 5: 9).
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
- الكتاب المقدس
- القديس أغسطينوس، مدينة الله.
- القديس يوحنا ذهبي الفم، العظات على إنجيل متى.
- أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.
- الأنبا أنطونيوس، أقوال الآباء
- فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن معنى (Man’s Search for Meaning).
- Martin Seligman, Authentic Happiness.
- Aaron T. Beck, Cognitive Therapy of Depression